أجرى الحوار: فوزي بن يونس بن حديد
بعد انهيار نظام زين العابدين بن علي في الجمهورية التونسية الذي استبدَّ وقَتَلَ ونفى وشرَّد واغتصب ودمَّر وكمَّم الأفواه، انطلقت العملية الديمقراطية بعد أن كانت مقيدة ومكبلة تحت تأثير مخدِّر البوليس الذي نراه في كل مكان يترصد كل حركة مخالفة لبلاط بن علي، انطلقت الحرية وتأسست جمعيات وأحزاب ونواد هنا وهناك في كامل التراب التونسي، وأحسَّ كل تونسي بأنه يتنفس الحرية بوجه جديد وتفاؤل مقرون بحذر. 
في ظل هذه المتغيرات الجديدة والنوعية خرجت تونس من النفق المظلم بسلام لنرى عروسا وقد تزينت بأبهى حللها، ينتشر عطرها وعبقها على مسافات بعيدة، ذلك العطر هو ما يسمى بالجمعيات التي انتشرت، ومن بينها «جمعية جربة التواصل»، استقبلنا رئيسها بأريحية تامة، وبتواضع جمٍّ، وخلق رفيع، فأبينا إلا أن نجري معه هذا الحوار الممتع والشائق عن العمل الجمعياتي في تونس بعد الثورة، إنه فضيلة الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري.
* بعد التغيير الذي حصل في تونس وانهيار النظام السابق الذي كان يكبِّل العمل الجمعياتي هل ترون أن هذا النوع من العمل يفيد في هذه المرحلة؟
- بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحرية نعمة كبيرة من الله تبارك وتعالى لدى الإنسان والحيوان ولدى كل المخلوقات، والله تعالى بين أنه كرَّم بني آدم وأنه فضلهم على كثير ممن خلق، فالحرية والكرامة أمران أساسيان في حياة الإنسان، وقد عانينا في العهد السابق من تكبيل حرياتنا، وإننا لنحمد الله تبارك وتعالى أن تحررت عقولنا وانطلقت ألسنتنا، وصرنا نسير في الأرض بحرية، ندافع عن هذه الحرية وندافع عن كرامتنا وفي ظلال هذا التحرر الطيب، التحرر المسؤول، التحرر الذي يقوم فيه الإنسان بواجبه ويطالب بحقوقه، ليس التحرر العشوائي المطلق وإنما نحن مع التحرر المسؤول والحرية المسؤولة، ومعنى الحرية أن حريتك تقف عند حرية الآخر، عند حرية الطرف الثاني، وهذا ما لم يفهمه جميع التونسيين في اللحظة الأولى، وتصوروا أن الحرية التحرر مطلقا من كل القيود، لا!.. القرآن الكريم حمَّل الإنسان مسؤوليته، وأعطاه نصيبا من الحرية كسبا لكي يكون مسؤولا أمام الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا ويوم القيامة. فمن هذا المنطلق فكر كل أطراف المجتمع التونسي في باب من الأبواب يعبرون من خلاله عن قيمة هذا التحرر وعن الاستفادة من هذا التحرر. نحن سلكنا مسلك العمل المدني الذي يُعرف بالعمل الجمعياتي، وهذا مسلك في تصورنا مفيد يتآزر مع بقية المسالك الأخرى؛ فهو ليس المسلك الأوحد، وإنما هي مسالك متعددة، الجمعيات والنوادي وكثير من التيارات والأحزاب السياسية، التوجهات عديدة وعلمتنا التجارب في أطراف العالم بأن العمل الجمعياتي إذا كان مخلصا وإذا كان أصحابه نشيطين فهو يضاهي العمل السياسي والعمل الحزبي، بل أثبت الأمر في العديد من البلدان أن النشاط السياسي الحزبي يستدرج أو يستهوي، بل أقول: يستدعي العمل الجمعياتي ويعول عليه تعويلا كبيرا، وكلما كثر عدد الجمعيات كان ذلك دليلا على الوعي لدى الأمة خاصة في هذه المرحلة، مرحلة الاندفاع والتحول إلى التحرر، لا ينبغي أن يؤدي هذا إلى فسيفساء، إلى كثرة بدون فائدة، والزمن يغربل، فالناس الآن انطلقوا في عشرات من الأحزاب، ولعلها مئات من الجمعيات، وكل حسب رغبته، ولن يثبت عبر الزمان إلا الأصلح، ومن يلقى إخلاصا من الذين أسسوا هذه الجمعيات؛ فلذلك نحن اخترنا هذا المنهج وصرحنا بذلك عبر الملأ، على أن في هذه المرحلة توجهنا ليس سياسيا، وإنما هو توجُّهٌ يخدم السياسة ويخدم الاقتصاد ويخدم الثقافة ويخدم المجتمع، عبر هذه القناة التي أثبتت الحضارة المعاصرة نجاعتها. 
* سمعنا أنكم أنشأتم جمعية في جزيرة جربة ما اسمها وما أهدافها؟ وهل بالفعل نحتاج في هذا الوقت في تونس إلى مثل هذه الجمعيات؟
- الحقيقة، حتى لا يكون كلامنا نظريا، تحولنا بسرعة إلى تكوين جمعية مقرها في تونس العاصمة وليس في جربة، وسميناها: «جربة التواصل»، وتكونت هيئتها أو لقاؤها الأول من ثلة من أهل الاقتصاد والثقافة والصناعة والتجارة، من كل فئات المجتمع، ومن الذكور والإناث، والكبار والصغار، كوَّنَّا هيئةً من اللقاء الأول الذي جاوز عدد الحاضرين فيه الثلاثين، فكَّرنا سويا، من محامين وأطباء ومهندسين وطلبة وشباب وكبار وصغار، هذا اللقاء جاء بعد تشاور، وأسفر عن تكوين هيئة تأسيسية، ثم بعد ذلك هيئة تنفيذية، وتقدمنا بمطلبنا الرسمي للسلطة المعنية آنذاك وزارة الداخلية، ثم حوَّل المرسوم الجديد ذلك الأمر إلى الوزارة الأولى وانتظرنا صدور التأشيرة، وصدرت يوم 23 جويلية 2011م بالرائد الرسمي، وكان لقاؤنا في شهر فيفري تقريبا، وهيأنا الأسباب وكل متطلبات الظهور إلى الولادة وإلى الكيان، وفعلا يوم 23 جويلية صدرت التأشيرة. وفي يوم 24 جويلية كونا تظاهرة في الجزيرة وملتقى صغيرا دام تقريبا أربع ساعات، وكان فيها لقاء جماهيري طيب، وحضر في القاعة في حدود 400 شخص، الربع نساء والباقي رجال وشباب وما إلى هذا، فاستبشر الجميع، وأُلقيت ثلاث محاضرات: المحاضرة الأولى ألقاها الأستاذ منصف الباروني المحامي الشهير على مستوى عالمي عنوانها: «الثورة: الهوية والانفتاح»، والمحاضرة الثانية ألقتها امرأة حدثتنا عن التجربة النسائية في جربة بعيد الثورة، وكانت التجربة بناءة ألقتها المنجية دالي، والمحاضرة الثالثة كانت بعنوان: «التجربة الجربية في القاهرة»، ألقاها الأستاذ أحمد مصلح؛ فكان اللقاء جيدا، وكان هناك انفتاح، وحضر كل من أراد أن يحضر ووصلته الدعوة، ووقع لومنا لأن الوقت كان قصيرا ولم نتمكن من نشر الدعوة في كامل الجزيرة، ونحن ننتظر من هذه النواة الأولى أعمالا أخرى إن شاء الله في المستقبل.
فحينئذ هذه الجمعية انضمت إلى جمعيات سابقة في الجزيرة، جمعيات أولى نشأت سنة 1975 كجمعية «جربة الذاكرة»، وكان ولا يزال لها الدور الفعال في حماية البيئة الجربية والتراث الجربي والثقافة الجربية، ودورها كان دورا محليا جربيا ووطنيا وإقليميا وعالميا؛ لأنهم استطاعوا عبر هذه السنين أن يربطوا قنوات مع عديد من الجمعيات في إيطاليا، في الجزائر، في اليونان وما إلى ذلك، ونشاط هذه الجمعية ينشر كل شهر في الجريدة المعروفة في جزيرة جربة بـ«جريدة الجزيرة».
جاءت بعدها جمعية أخرى وهي جمعية ثقافية عامة، وأشرف عليها خاصة أطباء ونشطوا في نطاق الصحة وأقاموا عيادات مجانية للناس نصف شهرية أو أسبوعية أو شهرية، واستفاد منها الناس استفادة كثيرة.
وأيضا جمعية أخرى اسمها: «جمعية التنشيط الثقافي»، انضممنا إليها وتعاونا معها في المركز الذي نشطنا فيه وهيأت لنا الأسباب، لأنها متقدمة، وهدفها فعلا ثقافي في جميع المستويات الثقافية، إلى جانب جمعية أخرى. وقد استفدنا من هذه الجمعية في العام السابق، ولأصحابها الذين أسسوها نوع من الحصانة بطريقة مرنة، هذه الجمعية مكنتنا آنذاك من القيام برحلة أولى ربطت العلاقة من جديد بين أهل عمان وأهل جربة مع جمعية أخرى، وهي «جمعية الأخوة التونسية العمانية»، وهذه مكنتنا من رحلة أخرى إلى عمان، وهي اقتصادية في نطاق «البيزنس» وقطاع رجال الأعمال، وكانت قد قدمت أشياء.
فالآن نبني على هذا الرصيد الذي تعايشنا معه منذ تأسيس الجمعية الأولى سنة 1975؛ فعندنا من الخبرة الكثير، فقبلُ كنا نغتنم أقل فرصة للاستفادة من هذا الأمر زمن القهر الدكتاتوري، أما الآن فمسؤوليتنا كاملة، وجمعيتنا على حسابنا وبمخططاتنا، مستعينة بالمجتمع المدني في جمعياته عبر الجزيرة وعبر الجمهورية مع التعاون إن شاء الله مع جمعيات عالمية؛ لأنه لا فائدة من جمعية تتقوقع في محيطها، ونحن فعلا اخترنا هذه التسمية: «جربة التواصل»، فالحقل الدلالي لهذه الكلمة لا حدود له، التواصل مع الماضي، الماضي الجربي، الماضي التونسي، الماضي اليوناني، فنحن نتواصل معه ونستقي من خبرته ومن ثقافته، التواصل مع الإباضية فيما بينهم، التواصل مع الآخر مالكي وشافعي وحنبلي ومع بقية المذاهب، وخذ لك جميع أصناف التواصل بين النساء في أطراف البلاد وأطراف العالم، بين الشيوخ، بين الأطباء، بين المهندسين؛ فمخططنا واضح في هذا في الربط بين كل ثقافة، ثم الربط بين كل الجماعات، فالتواصل مع الأطباء، مع المهندسين، مع الشباب، ومع المعلمين؛ مما سيمكننا إن شاء الله من إنشاء شبكة علاقات جيدة، ونحن والحمد لله لنا من العلاقات ما يكفينا لنزيد على رصيدنا رصيدا يتماشى مع الحرية، مع عطاءات الحرية التي نحمد الله تبارك وتعالى عليها.
* ما هي أهداف جمعية «جربة التواصل» على المديين القريب والبعيد؟
- الحقيقة، فيه قانون في تونس وفيه سقف، وبقي هذا القانون ونحن نحترمه، ونحن اخترنا سقفا اجتماعيا؛ فهي جمعية ثقافية فنية وتواصل، فالثقافة كلمة معروفة شاسعة، وهي صنو كلمة «حضارة» تقريبا، والحضارة والثقافة هو كل ما أنتجه الإنسان في علاقته مع الغير، مع الله تعالى، ومع الكون، ومع العالم المادي، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان؛ فهدفنا هو أن نحاول تثقيف الناس الذين سينخرطون معنا، وتوسيع آفاقهم، وتمكينهم من المشاركة الفعالة في ما ينفع الأمة وينفع الوطن.
فتواصلنا مع أهل الطب مع الأطباء يرمي إلى تحسيس هؤلاء الناس بأمر نحس بأننا في أشدِّ الحاجة إليه، فالناس يشتكون اليوم من جشعٍ لدى عديد من الأطباء، ولا أقول جميع الأطباء، فنحاول أن نحسس هؤلاء الناس، وأن نذكِّرهم باليمين التي أقسموها، وهي معروفة لدى هؤلاء، لا بد أن يقسم بأن يلتزم بما جاء في القسم وهو عهد بالتطبيق بأن عمل الطب عمل إنساني، فنحن مع الأطباء ومع الفلاسفة ومع المفكرين نحاول أن ندفع هؤلاء إلى أن يتوسعوا في عملهم، وأن لا يكتفوا بالعمل بالمقابل، وإنما أن يتحولوا إلى التطوع، وفعلا لمسنا من عديد من أصدقائنا الأطباء أنهم على استعداد.
 
وأيضا الصيادلة نحسسهم بأن يحسسوا الأمة، وهذا رافد كبير لتوفير الأدوية لذوي الحاجات، فكثير من الناس لا يستعملون الدواء الذي يشترونه كله، فنحسس هؤلاء الصيادلة بأن يحسسوا المواطنين الذين يعالجون عندهم في نطاق الجمعية بأن يُرجعوا ويقدموا جميع ما بقي من أدويتهم التي استغنوا عنها في آجالها لنوزعها وننظمها مع الأطباء والصيادلة على المحتاجين من الأمة.
وهكذا التعاون في أمر التعليم هذا بمقابل، فنحن لا نحرم هؤلاء الناس من المقابل ولكن يكون منظما، ويكون مساعدة للعباقرة والطيبين من طلبتنا، بحيث توفر الجمعية بتطوع من أساتذة، أو بمقابل تؤديه الجمعية حتى يكمل أولادنا ومن يعيشون معنا دراستهم، فالأمر ليس منحصرا على الجربيين أو الإباضية، وإنما هو مفتوح لجميع الناس لينال هؤلاء الناس نصيبهم من الحصص الإضافية؛ لأن الدراسة اليوم فعلا يحتاج فيها الطلبة والتلاميذ إلى هذه الحصص.
فهي - إن شاء الله - حركية حضارية واضحة المعالم، تمس جميع شرائح الأمة، وبدأنا - والحمد لله - في الازدواج بين النشاط الرجالي والنشاط النسائي، ووجدنا الإقبال من النساء أكثر من إقبال الرجال على مستوى الجزيرة، وعلى مستوى نسائنا في العاصمة، وكما ذكرت لا نقتصر على جماعتنا، وإنما هو تواصل شيئا فشيئا مع جميع الدوائر، وسنسعى ونحن في العاصمة إلى القيام بحملات تعريفية بالجزيرة للتعاون مع أهل العاصمة الذين معهم.
وأول مشروع يدور الآن في ذهننا أن نقوم في الأيام القليلة المقبلة بحملة نظافة في مستوى المدينة؛ لأن مقر الجامعة في تونس المدينة التي هي مسلك سياحي كبير؛ فالجمعية تتعاون مع البلدية والناس الذين حوالينا للتحسيس بأن العمل الجمعياتي ليس عملا نظريا فقط، وإنما هو عمل تطبيقي ميداني.
* ما هو نشاطكم الديني في هذه المرحلة إذا؟
- نحن لا نخلط بين أمرين، فنشاط الجمعية ثقافي عامٌّ، ويمكن أن يكون جزءٌ منها ثقافةً دينية، لكن النشاط الديني أساسه الجامع، وقد تحرر الآن والحمد لله، وكنا من قبلُ لا نقدر على الكلام، حتى من كانت له خطبة الجمعة فهو مكبل، ويدور في دوائر ضيقة لا يستطيع أن يقترح أو يناقش وما إلى ذلك، نحمد الله تبارك وتعالى الذي أرجع إلينا إمامة الجمعة في جامع الإباضية في تونس العاصمة، ويعني مسؤولية هذا الجامع، فرجعنا إلى نشاطنا الذي بدأناه قبل ثلاثين سنة، ولكن بمسلك جديد، وبآليات جديدة، وهذا النشاط طبعا يتمثل أولا في أن خطبة الجمعة صارت تعايش الواقع، وتُقدِّم مقترحات لمن تهمه المقترحات، على أساس أن تنطلق جمعيات متعددة عبر العاصمة وعبر الجمهورية.
فمما نادينا به من الجمعة الأولى: أن الأمة الإسلامية كلها تستريح يوم الجمعة ولم تبق إلا تونس، فقلنا ونادينا جميع الجمعيات بأن تراسل هؤلاء الذين سيؤسسون الدستور، وهؤلاء الذين سيتولون البلد من الآن إلى أن يقع النداء إلى أن يصل الأمر إلى الاستفتاء، حتى نعايش إخوتنا المسلمين شرقا وغربا في استراحة يوم الجمعة.
وأيضا عند افتتاح السنة الدراسية نادينا من على المنبر: أيها المواطنون لا تنتظروا إملاءات وزارة التربية وبرمجتها، وإنما نقترح برامج واضحة، وفيها الثقافة أو الناحية التربوية والأخلاقية المفقودة عندنا الآن بوجهها الإسلامي، اقتراحات مكتوبة عملية تنطلق من جمعية ما، وتنضاف إليها اقتراحات من جمعيات أخرى، وإذا تضافرت الاقتراحات الأخرى ونشرت هذه الاقتراحات في المسموع والمرئي والمكتوب إن شاء الله تؤتي ثمارها؛ لأن الدولة التي ستقوم، «كيفما تكونوا يولَّ عليكم»؛ فنحن علينا أن ننادي بأدب وأخلاق ومسؤولية، ونسعى إلى توجيه أمتنا عن طريق العمل الجمعياتي إلى الخير؛ لأن معنا جمعيات أخرى مادية ولائكية وعلمانية تدعو إلى غير هذا، والمعركة لطيفة، وكلما قويت المعارضة يقوى العمل ويؤدي واجبه، وبعد ذلك صناديق الاقتراع والاستفتاء هي التي توجه الأمة وتغربل ما صدر عن جميع التيارات والجمعيات.
* ما مدى نجاح الفكر الجمعياتي في بلد يحتاج الآن إلى من ينقذه من الغرق السياسي وتفكُّك النسيج الاجتماعي والتردي الاقتصادي، أم أنكم ترون إلى الأوضاع في تونس بمنظار آخر؟
- الحقيقة أنا لا أنظر إلى الأمور بمنظار متشائم، ولكن أنظر إليه بمنظار متفائل وأقول: تونس بخير، فمهما نُهب منها من أموال فالناس الآن بالتحرر مستعدون للبناء من جديد، المهم أن تستقيم الثقة الكاملة بين الإدارة المسؤولة عامة - وهي جزء منا - وبين المواطن بجميع مستويات حياته، صحيح فيما مضى كان هناك إحباط، وكان فيه يأس ومع ذلك كنا نقول للشباب: لا تتوقفوا عن النضال في الدائرة المعروفة في النظام الدكتاتوري، وفعلا بالتجربة في نطاق التدريس في الجامعة استطعنا - ونحن مكبلون ونشتغل بـ 20% فقط أن ننافس التيار المادي الذي يشتغل بسرعة 120% - أن نُفهِم الطالب المسلم أن الإسلام غير ما يقول عنه المستشرقون وغير ما يقول عنه الغرب، وغير ما تتبناه الدولة بذكاء، واستطعنا مع طلبتنا أن نجعل منهم الواعي الذي يتبنى الفكر الإسلامي ويدافع عنه بأية وجهة، بوجهة إباضية بوجهة مالكية بوجهة شافعية. ومهما يقال فإنه كان لدينا نصيب من الحرية استطعنا أن نبث من خلاله فكرا إسلاميا وسطيا معتدلا واضحا، ووصل شبابنا آنذاك إلى التحدي بإرسال اللحى ولباس الخمار، وخاصة ونحن لا نلح على هذا وإنما نلح قبل كل شيء على المحافظة على الصلاة، فأبناؤنا وبناتنا الذين نشؤوا معنا كانوا يحافظون على صلواتهم، ورغم الكبت والمراقبة والمعاقبة يؤدُّون صلواتهم جماعة في وقتها في الجامعات وفي الكليات، فقط هو عملية سعي إلى الإقناع بذلك؛ فنحن نقول ذلك بمنأى عن السياسة؛ لأن السياسة من حياة الإنسان ومن كيانه فعندنا من شبابنا من نشط في هذا الأمر ونحن نعلم في البلدان التي سبقتنا في هذه التجربة أن الأحزاب تستدر عطف الجمعيات القوية، ومن الجمعيات القوية من يتجاوز في نشاطه بعضا من الأحزاب التي عدد أصحابها المنتسبين إليها محدود، فالجمعية جزء يتعامل مع الجانب السياسي لكن الجمعية لا تلتزم ببرنامج سياسي قد يكبل أصحاب الحزب وقد يرجع عليهم بالسلب، فالجمعيات تتحرك مع الأحزاب جميعا وتستفيد منها الأحزاب جميعا وهي تستفيد من الأحزاب جميعا ومررنا بتجربة في الاستعداد للانتخابات يعني أصحاب الأحزاب والقائمات المستقلة هم طالبونا بأن نهيئ لهم اجتماعاتهم ليبثوا فكرهم، وفعلا دعونا العديد من الاتجاهات، وكانت اجتماعات طيبة ومناقشات طيبة للإعداد الأولي للدستور، وماذا نطالب في هذا الدستور، ثم خاصة الإعداد المستقبلي لبرامج هذه الأحزاب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ فإذا استقام حزب ذو مسلك وسطي، وتعاونت معه عشرة أو عشرون جمعية فإنه يكون مناط عزٍّ، ويكون مناط قدرة على الانتصار عن طريق صناديق الاقتراع، بشرط أن تكون الثقة الكاملة بين هذه الجمعيات وبين الحزب الذي يتحرك، أو مجموعة أحزاب تتكتل. يكفينا من الحزب الواحد وإنما نحتاج إلى تكتلات، ويكفينا من جمعية واحدة ومقننة ويشرف عليها إنسان وعنده حواجز وحدود، وإنما هي جمعيات، إذا وصلت إلى أن تتآلف فيما بينها كما سعينا في جزيرة جربة إلى إقامة جمعية سميناها جمعية المعرفة وجعلنا في هيئتها التنفيذية من أهل العلم، وخاصة من أهل الثقافة الدينية تتوجه إلى رعاية الأمة في ما تحتاج إليه. وانطلق نشاطنا بالتعاون مع بقية الجمعيات في رمضان الماضي حيث أكسبنا الجزيرة حيوية بالاعتماد على المشايخ هناك، والاستفادة من دعوة شيخين واعظين من سلطنة عمان في نطاق التعاون بيننا وبين عمان، والتواصل معروف بين جزيرة جربة أو بين الجمهورية التونسية عامة وسلطنة عمان للأواصر الثقافية والفكرية والدينية، وهذا لم يتوقف عبر الزمان، وحتى زمن الاستبداد عن طريق جمعية الصداقة العمانية التونسية، وجمعية الأخوة التونسية الثقافية، استطعنا أن نشارك في اللجان المشتركة والرسمية والسياسية؛ لأن الجمعية متحررة تتحرك في أي تيار وفي أي وقت، المهم العمل الذي ينفع الوطن وينفع المواطنين.
* بعد العمل الجمعياتي هل فكرتم في إنشاء حزب يشارك في الانتخابات البرلمانية وحتى الرئاسية ربما؟
- أنا من اليوم الأول قلت: لن أشتغل بالسياسة؛ ولذلك قد يفكر آخرون ونحن نشجعهم، أما من داخل «جمعية جربة التواصل» فلا سياسة بمفهومها العملي التطبيقي، نظريًّا ومساعدةً لأهل السياسة نحن على استعداد، أما أن نتبنى نحن الآن مشروعا سياسيا كمجموعة إباضية جربية فهذا ليس من مخططي على الأقل في هذه المرحلة، قد يتحول الأمر في المستقبل، فأنا لا أغلق الأبواب، أما الآن فلا اشتغال بتنظيم سياسي وعمل سياسي وبرنامج سياسي وما إلى ذلك، نتعاون مع إخوة لنا نتشجع بالإقبال على هذا الأمر نؤازرهم، ونعطيهم أصواتنا، ولكن لا نتبنى كهيئة عاملة مشروعا سياسيا متكاملا.
* ماذا لو طلب منكم الترشيح للرئاسة؟ 
- أنا أقول لك لا أشتغل بالسياسة فكيف سأشتغل بالرئاسة، فمن صغري طبيعتي هكذا ليست مهيأة، فليس هذا جديدا بالنسبة إلي، لِمَا رأينا في السياسة من إحباط، ولا أريد أن أذم السياسة؛ لأن السياسة جزء لا بد منه، له شروطه وله أشخاصه يرغبون في الرئاسة وفي القيادة والظهور، فالسياسة هكذا اليوم، فهي تحتاج إلى إبراز عضلات، وإلى كلام وإلى أن تقول الكلام مرونة، وتعطي الحيلة بشكل آخر، وهذا مبدئيا ليس مسلكي، وإنما مسلكي أن أخدم الأمة بشكل آخر، متعاونا مع أهل السياسة ممن نرى أن برنامجهم يحافظ على ما يطالب به الإسلام لبناء الأمة تدريجيا؛ فلا يمكن للأمة أن تتحول حتى بقوة سياسية بين لحظة وأخرى من أمة كانت غارقة في تيار مادي تيار يبعد عن الإسلام إلى أمة مسلمة كاملة الإسلام؛ لأن مَن تكوَّن فيها كان علمانيا ولائكيا وماديا ومائعا ومن كل التيارات وما إلى هذا لا يمكن أن يتحول إلا مرحليا، عن طريق الدعوة إلى الإسلام الوسطي؛ حتى يزول خوف الناس من الإسلام؛ لأن الناس عندنا الآن يخافون من الإسلام أكثر مما يخافون من العلمانية، ففي تصورهم أن الإسلام جمود، وأن الإسلام أحكام بالإعدام، وأن الإسلام لا يستقيم مع الحضارة المعاصرة، فيجب أن نثبت عن طريق الجمعيات وعن طريق الأحزاب التي تبنت فكر الإسلام الوسطي على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
* هل فكرتم في وضع إطار معين يحفظ هذه الجمعيات ويبعدها عن التصادم الذي قد يحدث في أي وقت على الأقل في جزيرة جربة؟
- الحقيقة إن القانون الذي نظم الجمعيات احترز من هذا الأمر، ولا يعطي تأشيرة لجمعية إذا كانت أهدافها تكررت مع جمعية أخرى، وعندما تُقدِّم طلبا لإنشاء جمعية لا بد أن تختار عنوانا من عشرة عناوين، وداخل هذا العنوان أن تضع أهدافا مستقلة ذاتية، فإذا صادف أن كانت هذه الأهداف مطابقة لجمعية أخرى تقدمت تُرفض الجمعية، فحينئذ كل الجمعيات التي تكونت واضح أن أهدافها يتميز بعضها عن البعض، ومهما كان التميز الآن فالقضية تقاس ميدانيا؛ لأن لكل جمعية أهدافا، ويمكن أن تنحرف عن هذه الأهداف، فهذا على مستوى الجمهورية نحاول أن نتحسس ما تقدمه هذه الجمعيات، وبصفة خاصة في الجزيرة. من البداية دعا بعضنا البعض إلى أن نتعاون لا أن نتناحر، فالتنافس مشروع، أما أن يصل الأمر إلى التصادم فلا، وطبعا عندنا عقلاء في جميع الجمعيات، وعندنا متهورون أيضا، فالعقلاء منا يحاولون بقدر الإمكان أن يقرِّبوا.
ثم إن أغلب الجمعيات كوَّنَها أبناؤنا، وهم يستفيدون من خبرتنا، فعادة يشاوروننا في بعض الأحوال، وفعلا جاءتنا العديد من المشاورات والاقتراحات، ودعونا هؤلاء الناس إلى أن يقلعوا عنها في التسمية، وأيضا في الحركة و في الاتجاه، ووجهنا هذه الجمعيات إلى الوسطية والاعتدال الذي يخدم المجتمع، وفعلا بدأت جمعية التنمية، هذه الجمعية التي تعهدت بأن تساعد ضعاف الأمة في مشروعها، وكونت برنامجا لمساعدة الطلبة المحتاجين، ونحن ساعدناها في ذلك، وتبنينا طالبة في هذه الدائرة مع هذه الجمعية، وأيضا اقترحنا عليها رعاية امرأة ضريرة تعيش في العاصمة تعبة هنالك، كيف نأويها ونوفر لها سكنا، بحيث هم لديهم اقتراحات ثقافية يقدمونها لنا، ونحن عندنا اقتراحات تعاونية عملية نعرضها، ونتعاون في تسديد التكلفة في ما يساعد على النهوض بهذه الطبقة الضعيفة فعلا، وإن كان مجتمعنا الجربي والحمد لله ليس فيه كثير، فأغلب الناس يشتغلون، ومن لم يشتغل من السهل تشغيله، والطبقة الفقيرة المعوزة بفضل التعاون المتأصل عندنا غير موجودة، وحتى إن وجدت وقع انتشالها من زمان، من حيث التعاون الداخلي داخل كل أسرة وداخل كل قرية، فالجار لا يترك جاره يتسول عندنا، فعيب كبير في مجتمعنا أن يتسول إنسان، وإنما إذا أصابته الخصاصة يشعر به جيرانه وأقاربه فبسرعة تأتيه المساعدات من كل مكان، وفعلا الأولياء فقراء وأغنياء تعاونوا على إرسال ثلة من أولادهم لتعلم القرآن الكريم عندنا في مدرسة النخلة في العاصمة، ورأينا تآزرا من أهل الثراء ومن أهل هذه العائلات، فكل عائلة تبنت النفقة الأساسية لأولادها وعلى مسؤوليتها، ثم الجماعة مع الجمعية كونت مشروعا يساعد أولي الأمر في الإنفاق على المدرسين وما يحتاج إليه هؤلاء في العاصمة؛ لأن تكلفة الحياة في العاصمة أضعاف ما عليه الأمر في الجزيرة، فهذا التعاون بين الجمعيات وبين أهل الخير وبين الجمعيات الخيرية وبين الرابطة القرآنية والمدرسة القرآنية المعروفة بمدرسة النخلة استطعنا الآن أن نأوي الآن في العاصمة 25 طالبا متخصصين لحفظ القرآن الكريم مع دروس في الأخلاق وفي اللغة وفي الفقه وفي الأمور الإسلامية مما يمكِّن المتخرج من هذه المدرسة أن يكون إماما أو واعظا أو مؤذنا وخطيبا، وإن شاء الله هذه النواة الأولى وستكون هناك نواة أخرى وأخرى في الجزيرة وأيضا في العاصمة في مدارس أخرى إن شاء الله.
* هل لجمعيتكم آفاق كبرى بحيث يمكن التواصل مع جمعيات أخرى من بلدان أخرى للاستفادة والدفع بها نحو الإقليمية وربما العالمية؟
- الحمد لله الآن بدأنا نجمع العناوين الالكترونية للجامعات المحلية الموجودة والعالمية وعن طريق الإيميل (البريد الالكتروني) وعن طريق السكايب سنبدأ مرحلة واسعة بالاتصال عن طريق هذه القنوات الجديدة، وقريبا نهيئ موقعنا الإلكتروني لأن المادة العلمية والثقافية فيه واسعة وكبيرة، فعندنا تقريبا ما يقارب 20 ألف صفحة مكتوبة، فمن قبل كنا لا نستطيع تقديمها، أما الآن فنجمعها ونهيئ لها موقعا، وعندنا من المسموع والمرئي الشيء الكبير، فموقعنا إن شاء الله أردناه أن يبنى بالتدرج، لكن الشباب قالوا: لا نريد أن يكون من المرة الأولى يظهر بزخم؛ لأن رصيدنا موجود، فهذا الزخم يدفع هذا الموقع بأن يفهم الناس أن هذه الجمعية عندها رصيد جيد، فآفاقنا أولا فيما بيننا تواصل معاشر الإباضية في شمال إفريقيا وفي عمان وفي زنجبار، ثم تواصل مع إخوتنا المالكية وغيرها من المذاهب على مستوى الثقافة الدينية، ثم بعد ذلك على جميع مستويات الثقافة وخاصة مع الجمعيات الناشئة مثلنا في العاصمة: جمعية الخطباء، وجمعية الأئمة، وجمعية العلوم الشرعية، وعديد هي العناوين الآن بصورةِ أنَّ استيعابها لن يكون إلا عن طريق الشبكة العنكبوتية في الاتصال بيننا وبين أصدقائنا؛ لأن رؤساء هذه الجمعيات أغلبهم تعرفنا عليهم في الجامعة، وتعرفنا عليهم في الدعوة، وفي الجزيرة، وفي الجنوب التونسي؛ لأنه كان لنا صدى ولقاءات ومحاضرات، وفعلا يسر الله تعالى - ولا أقول هذا من ذكائي أو من علمي وإنما من فضل ربي - استطعنا أن نعرّف إخوتنا الأساتذة في الجامعة بالإباضية تعريفا صحيحا، وأن ننزع من أذهانهم ما جاء من طعن في كتب التاريخ وفي كتب الفرق، وثلة الزملاء الذين تعايشنا معهم أو تعايشوا مع زملائنا في مختلف المؤسسات ومختلف الكليات والجامعات فقد صاروا يميزون بين كلمتي «إباضية» و«خوارج»، وهذه مرحلة جيدة وصاروا يفهمون أن الإباضية ليس مذهبا متشددا متطرفا من خلال سيرتنا وتعايشنا معهم، وأيضا غرسنا هذا في طلبتنا عامة في مراحل الدراسة الأولى، وخاصة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ولدينا الآن دراسات بالعشرات في مرحلة الماجستير، وفي الدكتوراه منهم من أشرفنا عليه، وغالبا أفضِّل إشراف زملائي الآخرين على هذه المواضيع؛ لتكون أكثر موضوعية وأكثر قبولا في واقع الجامعة التونسية، وفي واقع النوادي الثقافية في البلاد.
* هل تتوقعون أن تتأسس تجربة ديمقراطية في تونس كالتي حدثت في تركيا؟ وهل يمكن أن ينجح النموذج التركي في تونس رغم التكتلات الحداثية والتيارات السلفية التي بدأت تتحرك وتتفاعل وتنتشر في المجتمع؟
- النموذج التركي نحن نستبشر به، ولكنني متفائل بأكثر من النموذج التركي، فالنموذج التونسي بحول الله سيفوق النموذج التركي؛ لأن النموذج التركي استفاد من التجربة التونسية، وهؤلاء الذين استفاد منهم النموذج التركي هم الذين يعيشون على الواجهة، لا أقول هذا استنقاصا من التجربة التركية، أبدا، فالتجربة التركية تبقى رائدة، إلا أن التجربة التونسية وموقع البلاد التونسية الاستراتيجي ورصيده الإسلامي كالرصيد العثماني السابق قادر على العطاء، وإن شاء الله تتضافر الجهود بأن يكون نموذجا مثالا ودائما تونس على مستوى عالمي اختيرت لتكون محطة التجربة الأولى التي تبث في العالم الإسلامي في السيئ وفي الحسن، عرفنا في تجارب سابقة كيف أن الشر بُثَّ في تونس وانتشر مثل قضية تحديد النسل مثلا بدئ بها في تونس ثم انتشرت الآن في العالم الإسلامي والعالم العربي، وكان الحديث عنها محظورا، ثم رأينا نفس الصور التي انطلقت والنماذج التي جاءت إلى سائر بلداننا، فنحن الآن نريد أن نقلب الصفحة، وأن الله تعالى هو الذي جعل ريادة الثورة في تونس فهي التي بدأت، وثورتها لم تكن بيد حزب ولا بيد شخص، وإنما كانت ثورة شعبية، شعبها اضطُهد، تحرَّك شبابها وانضمَّ إليهم الكهول والنساء، وانبثقت الشرارة بسرعة عجيبة ونحن بشيخوختنا فالأشياء التي رأيناها تتصارع وتتسارع كدنا لا نصدق ما نراه، نرى ذلك في شارع الحبيب بورقيبة وأمام وزارة الداخلية وفي صلب السلطة الداخلية حيث القوة والقهر وما إلى ذلك، فأن يصدر هذا فهو خير كثير، ونحن إن شاء الله نستفيد من جميع التجارب، ونرجو أن تكون تجربتنا في تونس تجربة رائدة نستفيد منها ويستفيد منها الجميع.
* الطريق إلى الديمقراطية صعب جدا ومليء بالأشواك، ماذا أعددتم لمواجهة الحداثيين والسلفيين يعني المتطرفين من اليمين واليسار؟
- أنا يعجبني الصراع والبقاء للأصلح، الصراع هو محرِّك كلِّ الفئات، والذي يصمد وعنده قواعد هو الذي يختاره الناس، فنحن دعونا الأحزاب التي اتجهت للفكر الإسلامي والجمعيات بأن لا نلجأ للعنف مهما كان، وأن نصبر على ما يسلَّط علينا من أذى، ومهما كان فنحن متدربون على الصبر، فقد صبرنا على دكتاتورية غاشمة، واستطعنا أن نترك فيها البذور الإسلامية، فكل المواطنين معنا ويتعايشون معنا، اللوم ليس عليهم فيما وضع في أدمغتهم، إنما اللوم على المؤسسات والنظام السابق، والقوى العالمية التي أرادتهم هكذا، وأرادت أن تبعد تونس عن الإسلام، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، فتونس مسلمة، ولغتها العربية، وهذا يرضعه الناس في ألبان أمهاتهم، حتى الذين نادوا في تلك الأيام باللائكية والعلمانية هم الآن يتراجعون؛ لأنهم فهموا أن التونسي يمكن أن تمسه في كل شيء أما أن تقول له: ليس ديننا الإسلام وإنما اللائكية تنقلب البلاد من بنزرت إلى رمادة، فحتى أكبر العلمانيين منهم الآن صاروا يقولون في الحملة الانتخابية نحن مستعدون بأن نتعاون مع الإسلاميين فيما يمكن أن نتعاون في شأنه؛ فهذا كسب جليل. ثم إن القاعدة الإسلامية الآن في البلاد تحتاج إلى توعية وتعبئة، وهذا دور الوزارة الآتية، وزارة الشؤون الدينية، بالتعاون مع من لهم الرأي والمعرفة والقدرة على نشر الإسلام المعتدل، فإسلامنا المعتدل هو الذي سينتصر بحول الله، وهؤلاء الجماعات ماديين وسلفيين ومتطرفين يمين ومتطرفين شمال إنما ندعوهم لأمر واحد ولحل وسط: لنتعاون في القواسم المشتركة، وليشتغلوا بحرية كاملة فيما يشتغلون به، فقط هناك مقدسات يجب أن يحترمها الجميع؛ لأن التجاوزات التي رأيناها في تلفزة نسمة وفي غيرها جعلت الجماعة المسلمة التي ليست قادرة على الصبر والتخطيط للمستقبل تثير زوابع ورد الفعل والفعل العكسي، نرجو من الماديين أن لا يكثروا من هذه الاستفزازات، بل أن يعدلوا عنها وأن يبحثوا في ما يصلح الأمة في اقتصادها، وفي مجتمعها، وفي أخلاقها، وحتى إن كانوا ماديين يجنحون إلى المادة لكن بقي عندهم رصيد إسلامي، فهو يقول: «ما شاء الله»، ويقول لك: «السلام عليكم»، وفي سريرته بقية من بقايا الإسلام، فنقول لهم هذه البقية رجاء استعدوا أو جاهدوا أو اعملوا لإحيائها حتى نتعاون فيما نستطيع التعاون فيه، ولا نصطدم في البقية، وإنما نتحاور ونتناظر، ودائما الديمقراطية تقول: صناديق الاقتراع هي التي تميز، وإن غلبتم فنحن معكم، وإن غلبنا وجب أن تكونوا معنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اسم الكاتب