جامع الجزائر قلعة دينيّة ومعلم حضاري
أشرف السّيّد عبد الـمجيد تبّون رئيس الجمهوريّة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الشّعبيّة على التّدشين الرّسمي لجامع الجزائر الكبير في مبناه ومعناه، الكبير في الرّسالة التي يقوم بها دينيّا ودعويّا وثقافيّا وحضاريّا في الجزائر خاصّة وفي العالم عامّة.
افتتحه يوم الأحد: 15 من شعبان 1445ه/ 25 من فبراير 2024م، بحضور وفود عديدة متنوّعة المناصب والمستويات والمسؤوليّات، من داخل الجزائر وخارجها؛ لتحضر يوما مشهودًا في تاريخ الجزائر الحضاري، ولتٌشْهِدَ العالم على دورها في تركيز أسس العمل الإسلامي البنّاء في مسيرة الإنسانيّة، يضاف إلى المسيرات السّابقة في مختلف الحقب والأطوار والأدوار الني قامت بها الجزائر المجاهدة الحاملة للرّسالة الحضاريّة، التي تقف في وجوه التّسيّب في الدّين، والإفلاس في القيم، والانهيار في الأخلاق، والتّخلّف عن ركب الحضارة، وفي مواجهة المؤامرات التي تحاك ضدّ الإسلام والهويّة والشّخصيّة...
تنهض بهذا الواجب بسلاح العلم والمعرفة، وبالتّخطيط المحكم الشّامل لكلّ متطلّبات بناء الفرد والمجتمع، وإعداد الأجيال المتعاقبة التي تُعتمَدُ في خوض معترك الحياة بقوّة في كلّ الميادين والمجالات، وبمختلف الوسائل، التي تواكب التّطوّر والتّقدّم بشعار: "الأصالة والعصرنة، والثّبات على الأصول والمبادئ والتّفتّح على مختلف الثّقافات والوسائل والأفكار البنّاءة.. هذا ما عرف عن أسلافنا في عزّ قوّة الحضارة الإسلاميّة، التي كانت شمسا تسطح على الغرب، كما قالت المستشرقة الألمانيّة " زغريد هونكيه". فليكن لجامع الجزائر هذا الدّور الأساس لاستخلاف الله عز وجلَّ الإنسان في الأرض، ولتتحقّق حقيقة استعماره فيها:: فالعمارة الصّحيحة القويّة هي رسالة الإنسان في الوجود: )...هُوَ الذِي أَنْشَأَكُمْ مِنَ الَارْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمِ فِيهَا...( (هود/ 61).
الهياكل العديدة المتنوّعة التي أُنْشِئَت في جامع الجزائر تشي بهذه الأدوار التي يقوم بها لدفع حركة العمل البنّاء الذي ينهض بالبلاد والعباد، وفي الوقت نفسه يقوم بعمليّة تصحيح لبعض المسارات غير السّليمة في التّخطيط والتّدبير والتّنظيم والتّسيير والتّقصير في القيام بالشّؤون الدّينيّة والوطنيّة والتّربويّة والتّوجيهيّة.. التي تُعَرقِل المسيرة، وتُبْعِد عن الرّسالة، وَتُنْئِى عن الغابة..
بني جامع الجزائر في خليج العاصمة في بلديّة المحمّديّة. كانت تسمّى في العهد الاستعماري الفرنسي " لا فيجري " على اسم الكردينال شارل مارسيال ألمان لا فيجري الذي أسّس جمعيّة المبشّرين بالجزائر. هذا الإجراء مهمّ وهادف، يحمل رسالة قويّة للنّاشئة خاصّة. فيها نظرة تاريخيّة، ولفتة حضاريّة، وتدبير محكم، وتوجيه سديد...
تقول الصّحف الجزائريّة: إنّه ثالث أكبر مسجد بالعالم بعد الحرمين الشّريفين. مساحته مائتَا ألف مربّع (200000). يتّسع لـمائة وعشرين ألف مصلّ (120000). يبلغ ارتفاع مئذنته مائتين وخمسة وستّين مترا (265)، وهي الأعلى في العالم.. تتكوّن من ثلاثة وأربعين طابقا (43)، خصّص خمسة عشر طابقا للمتاحف (15)، يروي تاريخ الجزائر. ومركزٍ للبحوث الدّينيّة، يتكوّن من عشرة طوابق (10). يضمّ المسجدُ قاعة صلاة كبيرة، تتربّع على مساحة عشرين ألف متر مربّع (20000)، يكسوها سجّاد باللّون الأزرق الفيروزي مع رسوم زهريّة، وَفق طابع تقليدي محلّي، يُـمثّل الثّقافة الشّعبيّة الجزائريّة.. يضمّ المسجد - الذي يعرف أيضا بجامع الجزائر - اثنَي عشرَ مبنى (12). من مشمولاته مكتبة تحتوي على مليون كتاب، وهي تتكوّن من ثلاثة طوابق، وقاعة محاضرات، ومتحفٌ للفنّ والتّاريخ الإسلامي ومدرسة عليا للعلوم الإسلاميّة لطلاب الدّكتوراه. هؤلاء الطّلاّب يدرسون خمس سنوات بنظام داخلي صارم (الصّرامة التي يتطلّبها طلب العلم، الذي يُعِدُّ للإسهام في مسيرة الحياة بكفاية وقوّة.)
يضمّ المبنى ثلاثة طوابق تحت الأرض مساحتها مائة وثمانون ألف مريّع (180000)، مخصّصة لركن أكثر من ستّة آلاف سيّارة (6000). وقاعتين للمحاضرات مساحتها ستّة عشر ألف ومائة متر مربّع (16100). إحداها تضمّ ألفًا وخمسمائة (1500) مقعد، والثّانية ثلاثمائة مقعد (300). كما يضمّ مكتبة تحتوي على ألفي مقعد ومساحتها واحد وعشرون ألف وثمانمائة متر مربّع (21800)..
يحتوي الجامع على مركز ثقافي وفضاءات لمختلف الأنشطة، منها قاعة للمطالعة، مكوّنة من أقسام علميّة وأدبيّة، وأخرى للشّباب، بالإضافة إلى قسم للوسائط السّمعيّة البصريّة. ومجلاّت تجاريّة، ومهبط للطّائرات المروحيّة.
هذه المكوّنات، وهذه الهياكل.. بذلت في إعدادها جهود فكريّة وماليّة وبدنيّة، وأخذت من العاملين على تهيئتها أوقاتا كثيرة، كما نالتهم انتقادات غير قليلة، وصادفتهم عائقات وعراقيل ومثبّطات عديدة... لكن بعون الله وفضله، وبعمل المخلصين الدّؤوب، وتضحيّات الرّجال الصّادقين.. قام هذا الصّرح الإسلامي الكبير، الدي يكون منارة إشعاع علمي وثقافي وحضاري للإنسانيّة كلّها، بما ينشره – إن شاء الله – من تعاليم الإسلام السّمحة لهداية البشريّة جمعاء؛ لأنّ الإسلام أرسل للنّاس كافّة..
هذه الجهود الكبيرة التي أنفقت في سبيل هذا المشروع الحضاري، يجب أن تجد لها مقابلًا، وهو استثمارها في البناء والإعمار وخدمة الصّالح العام.. تبدأ من المسؤولين أن يسيّروا هذا الصّرح أحسن تسيير، وينظّموا الأنشطة التي أعدّت لكلّ هذه المباني أحسن تنظيم، ويجتهدوا ويجاهدوا في المحافظة عليها ويبعدوا التّسيّب عنها. ويعدّوا البرامج الهادفة التي تنتظرها. كما على الجميع عمارة هذا الجامع بقوّة وباستمرار لتحقيق الأهداف المسطّرة لجامع الجزائر، الصّرح الحضاريـ والتّحفة المعماريّة المتميّزة، والحصن الكبير الذي يدفع عن المسلمين أسباب الانحراف الفكري والعقدي والحضاري، ويمنع عنهم الانجراف نحو ما يمسّ هويّتهم وشخصيّهم..
خلاصة القول: الجامع مركز الإشعاع والتّنوير والتّوعيّة لمن يريد التّعرّف على الإسلام الصّحيح، كما نزل به القرآن العظيم، ونشره الرّسول الكريم. فهو ليس مهيّأً لإقامة الصّلاة وقراءة القرآن والقيام بالعبادات التي تعوّد عليها النّاس، أو فهموها من عمارة المسجد.. هو لم يُبْنَ ويُرفَعْ لِـما ذكرناه فقط، إنّما أعدّ ليكون مؤسّسة علميّة ومعرفيّة شاملة؛ بالنّظر إلى الهياكل التي أوجِدتْ فيه، أي هو جامع وجامعة في آن واحد، كما عرف عن هذا المعلم في الحضارة الإسلاميّة. إذ هو يوفّر تكوينا نخبويّا متميّزا؛ بالنّظر إلى المخطّط الدي وضع له والمنتظر منه نتائج مهمّة.
يعدّ قطبا متعدّد الوظائف، يجمع طابعه المعماري بين العصرنة والبساطة.. هو مفخرة للجزائر ومكسب للأمّة الإسلاميّة، ومنارة للعالم كلّه لمن يريد التّعرّف على الإسلام واكتساب المعارف.. الحمد لله كنت محظوظا بحضور يوم التّدشين الرّسمي لجامع الجزائر الكبير. نسأل الله أن يحفظ هذا الصّرح والحصن والحضن، وأن يُوَفِّق إلى عمارته بالأعمال الصّالحة النّافعة للدّنيا والأخرى..
الجزائر يوم الثّلاثاء: 17 شعبان 1445ه
27 فبراير 2024م
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام