صدر حديثًا للدكتور محمَّد بن قاسم ناصر بوحجَّام كتابٌ هو على صغر حجمه عظيم الفائدة عميق الفكرة، إذ يتناول بالدراسة «حلقةَ العزَّابة» سنام النظام العُرفِيِّ الاجتماعيِّ بوادي ميزاب؛ النظام الذي تمتدُّ جذوره في أعماق التاريخ الإسلامي لأبعد من ألف سنة..! فبقدر ما يتعمَّق اعتزازُ الجزائريِّ المسلم الإباضيِّ بهذا النظام الديني والاجتماعي والتربوي، بقدر ما تعظُم في عينيه مسؤوليةُ التعريفِ به ونشر مبادئه في الآفاق، في وقت تتجاذب فيه المجتمعات الإسلامية كثيرٌ من الأفكار الإيجابية أو السلبية والتوجُّهات البناءة أو الهدَّامة...
جاء هذا الكتاب ليقدِّم للقارئ العصريِّ المستعجِل خلاصة كُتبٍ ودراساتٍ كثيرة، ومعلوماتٍ دقيقة حول هذا النظام، فهو يبدأ بتعريف مفهوم «العزَّابة» ومَن هُم الأشخاص الذين يُطلق عليهم هذا المصطلح، ثم يتعرَّض إلى «هيئة العزَّابة» أو «مجلس العزابة» فيحدِّد مهامَّه ودوره في توجيه الرعيَّة لما فيه الخير والصلاح دينًا ودنيًا. على أنَّ هذا النظام لم يكن ليصل إلى غايته المرجوَّة وأهدافه المنشودة بدون وجود هيئات أخرى تربط بين أفراد المجتمع وتوحِّدهم في شكل بناء هرمي، فكان هذا الموضوع فصلاً آخر في الكتاب تحدَّث فيه عن المؤسسات والهيئات المساعدة للعزَّابة، كهيئة العزابيات أو «تِمْسِرِدِين» التي تتولَّى شؤون المجتمع النسوي، ومجالس الأعيان، والعشائر، و«إِمصُّوردَان» و«لَمْكَارِيس»... ولن أستطرد في عرض هذه المصطلحات ولا في شرحها فستجد في الكتاب - عزيزي القارئ- ما يُفيدُك ويُغنيك عن السؤال...وقبل أن يختم المؤلف كتابه نجدُه ينبه القارئ إلى عنصرٍ مهمٍّ وهو في الحقيقة مَلاكُ الأمر كله، وسبب نجاح هذا النظام واستمرارِه هذه القرون الطويلة وتطوُّره من نظام تعليميٍّ بسيط إلى نظام يوجِّه المجتمع المسلم ويُعنى بأغلب مناحي الحياة فيه... إنَّه الالتفاف حول المسجد، فمن روح المسجد يَستمدُّ النظام طاقته، ومن نوره يستنير سبيله في الحياة... فالمجتمع الإسلامي هو في الحقيقة مجتمعُ المسجد... يقول المؤلف: «إنَّ تنظيم حلقة العزَّابة أنشئ أصلاً ليُسهم في بناء المجتمع الإسلامي، الذي يتَّخذ المصادر الإسلامية منابع لتنظيم هذا المجتمع، يحدِّد المسجد المنطلق لنشاطه وعمله، ويرضاه المهيمنَ عليه؛ لذا كان هذا التنظيم حريصًا على الإشراف على حياة الناس بشكل شمولي كامل، وتوجيه سلوكهم بما ينمي الروح، ويُقوِّي الانتماء، ويؤصِّل المبادئ، وبحفظ من الانزلاق في حمأة المادة، ويصن من الابتعاد عن جوهر الدين... إنَّ هذا التنظيم هو مظهر الدين وحارسه في المجتمع الذي يشرف فيه عليه».وكأني بالمؤلف يختم كتابه بالإحالة إلى كتاب آخر له، وضعه من خلاصة دروس الشيخ الإمام إبراهيم بن عمر بيُّوض (رحمه الله) بعنوان «المجتمع المسجدي»، كما يستلهم في هذا الكتاب عملاً آخر للدكتور محمد صالح ناصر (حفظه الله) بعنوان «حلقة العزابة ودورها في بناء المجتمع المسجدي». وأفيدك أخي القارئ والباحث المتخصِّص بأن «جمعية التراث» قد أصدرت كتابًا - وهو في الحقيقة عملاً موسوعيا ضخمًا - في هذا الموضوع، وهو من تأليف الأستاذ الشيخ صالح بن عمر اسماوي، بعنوان: «العزابةُ ودورهم في المجتمع الإباضي بميزاب» يقع في ثلاث مجلدات، نال به الأستاذ درجة الماجستير في التاريخ.
مطالعة شيقة أرجوها لك، واستفادة مباركة من هذا الكتاب بإذن الله