حينما نقف مع مسيرة هذه الحركة الإصلاحية، محاولين تحليلها وفهم مسارها بالعودة إلى مصادرها الفكرية المتمثلة في خطابها الدعوي وفي الوثائق والجرائد والرسائل التي خلفتها نستطيع أن نحدد لها أربعة أسس فكرية اعتمدت عليها في إحداث نهضتها الإصلاحية متمثلة فيما يلي:
التعليم - التربية - الوعظ - التوعية.
فما مفهوم كل منها، وكيف تم تجسيدها في المجتمع ؟
1- التعليم:
يعني التعليم في مفهوم الحركة الإصلاحية ذلك الجهد الذي يبذل في سبيل تثقيف المجتمع وإشاعة العلم والمعرفة في شرائحه بما يمكن أفراده من إدراك واجباتهم الشرعية، ومسؤولياتهم الدنيوية ...
حتى يسهموا في بناء المجتمع القوي الصالح بدينه وعلمه وعمله(5).
إنَّ مسيرة التعليم في وادي ميزاب تعود إلى قرون ماضية كثيرة، كما أنها لم تشهد الانقطاع أو التوقف رغم كل الظروف وتقلبات العصور التي شهدها المجتمع، حيث لم يدخر المشايخ والعلماء جهدا ولا وقتا في الحفاظ على قبس العلم ونوره، والعمل على إشاعته بين الناس، ولقد بقي العلم في وادي ميزاب شيئا مقدسا محترما عزيزا، ينظر إليه بكثير من التقدير والوقار، رغم ما أصاب أهله بين الحين والآخر من تهميش أو تضييق أو إبعاد.
واصل رجال الإصلاح حمل لواء التعليم من جديد وأفرغوا جهودهم وأموالهم وأوقاتهم في سبيل تطويره وتوسيع رقعته ورفع شأنه لدى الناس، وكان هدفهم يتمثل في الوصول إلى محو الأمية نهائيا من المجتمع، وفي تلقي كل أفراد المجتمع نصيبهم من العلوم الشرعية بما يسمح لهم بمعرفة ما لا يسع جهله من الدين؛ من الفرائض والواجبات والحقوق وحدود الله تعالى والأوامر والنواهي، ومحاربة الجهل في الدين نهائيا.
يقول الشيخ عدون محددا الغاية من التعليم بقوله: «... تكوين الملكات العلمية في مختلف الفنون وتثقيف العقل، وتنوير الذهن، وتربية النفس تربية صحيحة وإعدادها لتحمل قسط من عبء الإصلاح الديني والملي والوطني، فإن الدين والملة والوطن تطلب منا رجالا أكفاء للعزابة والقضاء والعدالة والوكالة والنيابة والإفتاء والتدريس والكتابة والخطابة والشعر ونحو ذلك من الأعمال الجليلة والمشاريع العظيمة والإصلاحات العامة»(6).
كما اتجه رجال الإصلاح في الوقت ذاته إلى إشاعة الثقافة بين الأهالي ونشر المعارف المتعلقة بعلوم الحياة المختلفة، التي تمكن الأفراد من الأعمال والمسؤوليات والوظائف والحرف على ضوء ما توصلت إليه العلوم العصرية؛ حيث إن هذا الجانب يكاد يكون منعدما في وادي ميزاب لأسباب اجتماعية وفكرية عديدة، فنشطت الحركة الإصلاحية في توفيره للناس وللأجيال الصاعدة خصوصا، لأنها أدركت أن مسايرة العصر وعيش قضاياه وتحمل مسؤولياته لا يتأتى إلا بتزويد الأجيال بهذه المعارف الضرورية، كما أدركت أن التمكين لنهضة الأمة لا بد له من الجمع بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية.
يشير الشيخ أبو إسحاق إبراهيم اطفيش إلى أهمية تحصيل هذه العلوم وحاجة الأمة إليها بقوله: « لا أخال مسلما على وجه البسيطة يستخف بفن من الفنون سواء أكان من الفنون الدينية أم الحيوية... هلكت الأمة الإسلامية بترك سنة الله في الكون وإهمال البحث عن واجب الحياة وموجب الفلاح»(7).
لقد كان هذا التوجه نحو التمكن من العلوم العصرية في وادي ميزاب منعطفا جديدا، وخاصية مميزة للحركة الإصلاحية عن الفكر السائد من قبل، الذي كان يرى خلاف ذلك، بنظرته إلى هذه العلوم بعين الازدراء، وتحاملهم على من يتعلمها، وإنكارهم على من يدعو إلى إدخالها في المدارس أو المعاهد، بكونها من علوم الكفار والمشركين التي تهدد الدين والمذهب وشخصية المسلم(8).
هذا ما ولد صراعا فكريا وسجالا كلاميا بين الفريقين؛ كل يرى الصواب فيما ذهب إليه وقصده.
يقول الشيخ أبو اليقظان مبينا أهمية هذه العلوم وخطر افتقادها على الأمة مخاطبا أحد المعارضين لها: «بتلك العلوم الدنيوية استولت أوربا عليك وعلى بلادك، استيلاء سياسيا واقتصاديا واجتماعيا»(9).
ركزت الحركة الإصلاحية في تثبيت هذه القيمة الحضارية في الأذهان وتجسيدها على أرض الواقع بتأسيس المدارس وفتح المعاهد والنوادي وحلقات العلم، لتكوين أجيال المجتمع والتدرج معها في مراتب التحصيل العلمي، وتوسيع معارفها بإرسال بعثات علمية إلى البلدان الإسلامية المجاورة، وبرعاية الكفاءات العلمية بعد إكمال تكوينها بفتح فرص التعليم والدعوة والخطابة أمامها(10).
كما ركزت على منبر المسجد الذي جعلت منه أداة لنشر العلم وتثقيف شرائح المجتمع ممن فاتته فرصة التعليم أو لم تسمح ظروفه للجلوس في مقاعد الدراسة، بتناول منبر المسجد مختلف المواضيع والقضايا وهموم الناس، وشرح أمهات الكتب في مختلف فنون العلم الشرعي من حديث وفقه وتفسير، وكذا بفتح حلقات العلم في المسجد لكل من يريد أن يتزود أو يستفيد من عموم الناس، في أطراف اليوم، بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. حتى أضحت المساجد في وادي ميزاب في عهد الحركة الإصلاحية جامعات شعبية مفتوحة أبوابها للتكوين والتحصيل وإشاعة الثقافة والمعرفة بين الناس.
وفي جانب تعليم المرأة شهدت الحركة الإصلاحية التفاتة لهذا الموضوع، ولو كانت محتشمة وبطيئة وتدريجية، حيث فتحت أقساما خاصة لها، لمحو الأمية عنها، ثم تدرجت في تزويدها بجملة من العلوم الشرعية والعربية التي تمكنها من إدراك مسؤولياتها وإعدادها لتحمل مهامها الفطرية زوجة وأما وربة بيت.
بهذه الصورة رأت الحركة الإصلاحية إلى قيمة التعليم، وهكذا عملت على غرسها في المجتمع، واعتبرتها ركيزة في سبيل قيام نهضتها الإصلاحية.
2 - التربية:
التربية في مفهوم الحركة الإصلاحية هي ذلك الجهد الذي يبذله العلماء والدعاة والمصلحون في سبيل ضبط سلوك الأفراد وفق الشريعة الإسلامية في عقيدتها وأخلاقها ونظمها وأحكامها، ثم توجيه هذا السلوك لخدمة الصالح العام، والتفاعل الإيجابي مع قضايا المجتمع بحمل همومه وانشغالاته والإسهام في خدمته وإصلاحه(11).
يصف الدكتور محمد ناصر الدور التربوي الذي كان يقوم به الشيخ أبو اليقظان مع طلبة بعثته في تونس بقوله: «كان الشيخ أبو اليقظان يؤمن أن التربية الإسلامية العظيمة هي التربية الكاملة الرشيدة التي تعنى بكل نواحي الإنسان، مراعية فيه جوانب النمو عنده، عقله وجسمه وروحه، حياته المادية والمعنوية، وكان المنهج الذي سار على هديه في هذا المجال يعتمد النظرية والتطبيق معا، فإلى جانب ما كان يغرس في نفوس التلاميذ من ترسيخ العقيدة الإسلامية، والتمسك بتعاليم الإسلام سلوكا وعبادات، كان برنامجهم يحتوي على وسائل عملية لذلك، مثل: الصلاة جماعة، مذاكرة القرآن أفرادا وجماعات، والاعتماد على النفس في القيام بشؤون البيت طبخا وتنظيفا وغير ذلك»(12).
اقتنعت الحركة الإصلاحية أن الإنسان ما دام حيا يرزق فهو بحاجة إلى تربية وتوجيه وتقويم للسلوك، فهي تبتدئ مع الإنسان منذ الميلاد وتبقى ملازمة له إلى الوفاة، وهي تسعى للعناية بالفرد وإقامة سلوكه على نهج الله تعالى، بالاقتفاء بنهج المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما تعمل هذه التربية على تقويم سلوك الفرد في مجالات حياته المختلفة، بداية بحياته الخاصة إلى حياته الأسرية، إلى حياته الاجتماعية والمهنية.
ولإقناع أفراد المجتمع بهذه الفلسفة وتجسيدها فيهم يلزم أن تتعاون على ذلك مؤسسات اجتماعية عديدة، لابد أن تحمل الهم نفسه، ولا بد أن يكمل بعضها دور بعض، ولا بد أن يتوحد الهدف لديها، وهي متمثلة في الأسرة والمسجد والمدرسة.
تبتدئ التربية من الأسرة اعتمادا على الوالدين اللذين يجتهدان على تنشئة أبنائهما على السلوك القويم والاستقامة، ويتعاون معهما أفراد العائلة الواسعة من الأجداد والأعمام والأخوال لأداء هذه المهمة، خاصة في حال وفاة الأب أو غيابه، ثم تأتي بعد ذلك المؤسسة الاجتماعية الثانية المكملة للدور التربوي للأسرة المتمثلة في المدرسة القرآنية العربية، حيث تعنى بالجانب التربوي وبناء شخصية التلميذ وتقويم سلوكه؛ فعمدة هذه المدرسة معلمون مربون حازمون لا يتساهلون في الدور التربوي، وتضع الأسرة كل ثقتها فيهم، فتجد هذا المعلم يتعامل مع تلاميذه معاملة الأب مع أبنائه في المراقبة المستمرة لأخلاقهم وتصرفاتهم، كما تجده في اتصال وثيق مستمر مع أسر تلاميذه وأوليائهم.
يبين الدكتور محمد ناصر بوحجام الدور التربوي للمعلم في المدارس العربية القرآنية للحركة الإصلاحية بقوله: «إن شخصية المعلم تقوم بدور أساسي في عملية التوصيل والتعليم، فهي تؤثر تأثيرا قويا في نفسية المتعلم إيجابا وسلبا، ونعني بالشخصية هذه المميزات التي يتمتع بها المدرس في الناحية الخلقية والتكوين العلمي والكفاية التربوية، فنجاح المعلم يتحقق له بقدر ما يتوفر له من هذه الجوانب الثلاثة»(13).
لتكملة هذا الدور تأتي بعد ذلك المؤسسة الاجتماعية الثالثة المتمثلة في المسجد، لتركز في خطابها الدعوي على مواضيع التربية والتوجيه والاستقامة، وعرض سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وسيرة صحابته الكرام، وسيرة الصالحين، وإسقاطها على الواقع، ودعوة الناس للاقتداء والاقتفاء، وتحمل مسؤولياتهم التربوية، حيث علا صوت المساجد في وادي ميزاب مؤكدا على التحلي بالأخلاق، وتربية النشء وتقويم سلوكها ومحاربة مظاهر الانحراف والفساد فيها(14).
كان من ثمرات هذا الخطاب الدعوي المسجدي المتواصل أن ترى كل فرد في المجتمع يشعر بمسؤولية الحفاظ على طهره واستقامة أفراده، وسلامته من المفاسد والانحرافات الخلقية، ويشعر في مقابل ذلك بمراقبة المجتمع لتصرفاته وسلوكاته، وباستطاعته مساءلته ومعاقبته اجتماعيا إذا استلزم الأمر ذلك.
بهذه الرؤية وهذه القناعة استطاع علماء الحركة الإصلاحية أن يغرسوا قيم التربية الإسلامية في نفوس أفراد مجتمعهم، واستطاعوا أن يجندوا في سبيل ذلك ثلاثة مؤسسات اجتماعية مهمة هي الأسرة والمدرسة والمسجد.
3-الوعظ:
لا يختلف مفهوم الوعظ لدى الحركة الإصلاحية عن المدلول الاصطلاحي المتداول للكلمة؛ من كونه محاولة تذكير المرء بواجباته الدينية والدنيوية وإسداء النصح له؛ إلا أن الحركة الإصلاحية تميزت في كيفية تجسيد هذه القيمة في المجتمع، وذلك بواسطة التذكير المستمر للناس بواجباتهم الدينية، وترغيبهم في فعل الخيرات والاستقامة لنيل الثواب والرضوان والجنات، وتحذيرهم من فعل المنكرات والانحراف عن الصراط القويم، تجسيدا لنهج النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي ربى صحابته وأقامهم على الحق بأسلوب الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، كما تميز هذا المفهوم في تذكير الفرد بالعلاقة الوطيدة والربط المحكم بين جانب العقيدة القلبية الإيمانية والقرآن الكريم والسنة النبوية كنصوص تحفظ وتتلى، وجانب العمل والالتزام بالأخلاق والفرائض والتشريعات والنظم والآداب المستمدة من الشريعة الإسلامية(15).
وفق هذا الخطاب يجد الإنسان نفسه قد وضع في موضع الفعالية الحضارية الإيجابية، بحيث تتحرك هممه وجوارحه نحو فعل الخيرات والمبرات وترك المنكرات والمفسدات.
كما يعني الوعظ في تطبيقه العملي كذلك بيان العلاقة المباشرة بين أعمال الفرد الخيرة في شتى مجالات الإصلاح والتعمير من فلاحة وحرف وتجارة وصناعة وأشغال؛ وبين المآل الذي ينتظر الإنسان من عرض الصحائف والمجازاة بالثواب والنعيم، وفي مقابل ذلك بيان العلاقة الوطيدة في حال التقصير والتضييع وعدم القيام بالواجبات في المجال الأسري والعائلي والاجتماعي وتضييع الحقوق الإلهية والبشرية بنيل العقاب والعذاب والجحيم.
فتكون ثمرة الإنصات لهذا الخطاب الدعوي المتواصل هي نماء الدافع العقدي والرقيب الإيماني الداخلي الذي يجعل الفرد يحاسب نفسه على كل ما يصدر منه من أقوال وأفعال، ويدفع به للقيام بواجباته أحسن قيام، ويجد في نفسه الاستعداد والقدرة على البذل والتضحية.
لقد نشط مشايخ الإصلاح كثيرا في إحياء منابر المساجد في أوقات متعددة من نهار اليوم وليلته؛ من بعد صلاة الفجر، وبين المغرب والعشاء، ومن بعد صلاة العشاء، وأفراد المجتمع مهتمون بحضور هذه الدروس والمواعظ منصتون لها، ثم ينطلقون بعدها إلى التطبيق والتجسيد في مجالات حياتهم المختلفة(16).
وفق هذه النظرة لقيمة الوعظ في المجتمع استطاعت الحركة الإصلاحية من خلال خطابها الدعوي أن تجعل الفرد في عمومه يلتزم بالاستقامة ويؤدي واجباته الدينية المفروضة، ويتحمل واجباته الدنيوية المنوطة به، ويبتعد عن الانحراف والسلبية في الحياة، ويحاول أن يعيش إيجابيا ويسهم في بناء صرح النهضة الإصلاحية لمجتمعه.
4- التوعية:
يمكن أن نعرف قيمة التوعية في فكر الحركة الإصلاحية بأنها إنارة الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الفرد في حياته بتوضيح رسالته في الوجود كما أرادها الله تعالى، وواجبه في عمارة الأرض باستقامته على صالح الأفعال، وبيان دوره الاجتماعي تجاه أسرته ومجتمعه ووطنه والإسلام عموما.
كما تعني كذلك تلك القيادة الرشيدة للمجتمع بتوجيه جهوده نحو البناء والعمارة وتكوين الفرد وإنشاء المجتمع الصالح المعاصر(17).
حين وقوفنا مع طبيعة الخطاب الدعوي الذي كان يوجهه أعلام الإصلاح للمجتمع نجد أن الشيخ بيوض مثلا قد اهتم كثيرا في دروسه بمسألة التوعية نظرا للظروف العامة التي مر بها المجتمع في وادي ميزاب، وبوجوده في بقعة صحراوية منعزلة، فكان بحاجة إلى أن يستفيق من غفلته، ويدرك رسالته في الوجود، ويدخل في معترك الحياة، ويؤدي واجباته الدينية والدنيوية، ويندفع نحو العلم والعمل والنشاط، ويتخلى عما به من قصور وعجز وركون.
أدركت الحركة الإصلاحية أن المجتمع في حاجة ماسة إلى التوعية حاجته إلى التربية والتعليم والوعظ والإرشاد، وأنه لا بد لأفراده أن يدركوا واجباتهم وحقوقهم في الحياة، حتى تتمكن الحركة من تجنيده في إحداث العملية الإصلاحية وتوجيه طاقاته إلى خدمة أهدافها.
لأجل تحقيق هذه القيمة اقتنع أعلام الإصلاح بضرورة محاربة الفكر السائد الذي اتسم بالجمود والتقليد والنظرة الضيقة الساذجة إلى شؤون الحياة، وأنه لا بد من الاستبدال به فكرًا متفتحًا في قالب خطابي معاصر ينظر إلى الأمور بنظرة فاحصة عميقة نابعة من المقاصد الشرعية والمصالح المرسلة للأفراد والمجتمع.
وظف علماء الحركة الإصلاحية القنوات الاجتماعية المختلفة والمناسبات المتعددة لبلوغ هدفهم في توعية المجتمع ورفع الجمود والانزواء والأفكار الخاطئة المعششة في أذهانه، وتوجيهه وتوعيته وتصحيح مفاهيمه حول الدين والحياة، حيث كانت منابر المساجد تصدح بالدروس التي توجه الناس وتعلمهم وتفهمهم واجباتهم ومسؤولياتهم وترفع عنهم غشاوة الجهل والانغلاق، وتحارب الأباطيل والخرافات وتفتح عقولهم على حقيقة الدنيا ورسالة المسلم فيها، وتدفع بهم إلى صالح الأعمال ونافع الفعال.
نجد الشيخ عبد الرحمن بكلي يحدد دور المسجد التوعوي بقوله: «ترقية الوعظ والإرشاد في المساجد، وإيقاظ الوازع الديني في النفوس ضرورة لإصلاح المجتمع، لأن المساجد قلب الأمة الذي يوزع عليها دماء الحياة، ويشيع في جسمها حرارة الغيرة والوطنية، وتربط صلة العبد بربه»(18). كما نزل رجال الإصلاح إلى ساحة المجتمع في السوق والشارع والحقل والعرس والمأتم ليكلموا الناس عن دورهم وواجباتهم، ويوعوهم وينيروا عقولهم بالأفكار الحية الفاعلة، ويحاربوا فيهم الأفكار الميتة البالية.
بهذه الجهود المضنية المتواصلة تمكن قادة الحركة الإصلاحية أن يقنعوا العقول بأفكارهم، وأن يخرجوها مما كانت فيه من جهالة واستكانة وانعزال، وأن يصححوا المفاهيم ويوضحوا الأهداف، وينيروا الخطى التي ينبغي للأفراد أن يتبعوها حتى يوفقوا وينجحوا في حياتهم ويعمروها بفعل الخيرات ونصرة مشروع النهضة الإصلاحية الشاملة.
بناء على خدمة هذه الفلسفة الإصلاحية في أبعادها الأربعة التعليم والتربية والوعظ والتوعية استطاعت الحركة الإصلاحية أن تعلي صرح نهضتها، وتبلغ أهدافها وتنجح في مشروعها وتقيم مؤسساتها، حين اقتنعت أن الأمة كانت بحاجة ماسة إلى إحداث هذا التغيير فأقدمت عليه بثبات وصبر وجهاد مستمر، أثمر هذا المنتوج الحضاري الذي يعرف في وادي ميزاب بالنهضة الإصلاحية.
-------------
هوامش
(1): مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، ط3، دار الفكر، الجزائر، 1986م، ص2029.
(2): أخرجه أبو داوود في سننه: رقم 3740، ج11، ص362.
(3): أخرجه الترمذي في سننه، رقم 2606، ج9، ص296.
(4): سورة الأحزاب / الآية: 21.
(5): محمد علي دبوز: نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة، ج3، ط1، المطبعة العربية، 1389?\ 1969م، ص119 - 177.
(6): سعيد شريفي، معهد الحياة نشأته وتطوره، ط1، المطبعة العربية، غرداية 1989م، ص57 - 58.
(7): إبراهيم أبو إسحاق اطفيش: الدعاية إلى سبيل المؤمنين. دت، ص36 - 37.
(8): صالح لعلي: البراهين القاصفة لمتتبعي الفلاسفة، دت، كله.
(9): إبراهيم أبو اليقظان: إرشاد الحائرين، تونس، 1341?، ص14 - 15.
(10): دبوز: نهضة الجزائر، ج3، ص119 - 177.
(11): دبوز: نهضة الجزائر، ج3، ص119 - 177.
(12): محمد ناصر: القيم الإسلامية في نظام التعليم بوادي ميزاب، مجلة الحياة، الصادرة عن معهد الحياة بالقرارة – الجزائر، ع1، 1998، ص74 - 75.
(13): محمد ناصر بوحجام: المعلم الكفء يحل كثيرا من مشاكل التعليم، مجلة الحياة، الصادرة عن معهد الحياة بالقرارة – الجزائر، ع1، 1998، ص88.
(14): إبراهيم بيوض: المجتمع المسجدي، جمع وإعداد: محمد ناصر بوحجام، دت، ص27 - 82.
(15): محمد الشيخ بالحاج: مميزات الإباضية نشأة وتأصيلا، تفريعا وسلوكا، مطبعة البعث، قسنطينة، الجزائر، 1991م. ص80 - 97.
(16): بيوض: المجتمع المسجدي، ص27 - 82.
(17): عبد الرحمن بكلي: مسيرة الإصلاح في جيل، نشر مكتبة البكري، المطبعة العربية، غرداية، 2004م، ص22 - 27.
(18): بكلي: مسيرة الإصلاح: ص23.
نشر المقال في دورية الحياة، العدد: 12، 1429هـ/2008م، ص 299-311.