بسم الله الرحمن الرّحيم
الرّحالة ابن بطّوطة الجزائر يرحل عنّا..
ودّعت الأمّة الإسلاميّة في هذه الأيّام علمًا كبيرا من أعلام البحث العلمي، ورجلا فذّا من رجال العمل الدّؤوب في خدمة التّراث.. إنّه الشّيخ الدّكتور عمر بن حمّو بن عمر سليمان بوعصبانه (لقمان) رحمه الله. الرّجل الذي سخّر حياته للبحث عن المخطوط في كثير من أقطار المعمورة، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، في مختلف قارات العالم. يزحف إليه ويحبو، ويسرع إليه ويدنو.. بل إنّ المخطوط يغازله ويناشده الاقتراب منه وإنقاذه من الضيّاع والإهمال والتّهميش.
قام بهذا العمل الشّاق المضني المرهق، من دون كلل ولا ملل، ولا الشّكوى ممّا يلحقه من العلل، نتيجة استمراره في العمل. همّه الوحيد الوصول إلى المخطوط مهما تكن العائقات والصّعوبات والتّحدّيات والمثبّطات. لا يوجد في قاموس عمله مفهوم المستحيل، ولا مصطلح هذا غير ممكن. ضحّى بوقته وجهده وماله وراحته، وبالبقاء في حضن أسرته مع زوجه وأبنائه وبناته.. من أجل أن يحقّق حلمه، ويبلغ أمله.. في جلب المخطوط أنّى يجده، ليخدم به أمّته الإسلاميّة، ويُظهِر للعالم وللأجيال الصّاعدة حقيقة حضارتهم التي علّمت العالم، وأوجدت لشعوبه معالم تسير على هديها، لتنهض وتقوم ببناء كيانها..
لكنّ هذه الشّعوب تنكّرت لهذه الجهود، وقابلتها بالنّكران والجحود.. وجاهدت في السّطو عليها وطمس معالمها، وعمدت إلى تهريب كثير من آثار الأمّة الإسلاميّة المكتوبة، ووَضْعِها في مكتباتها ومتاحفها، والضّن بها على أصحابها.. فقيّض الله رجالا مخلصين للكشف عن هذه الكنوز والآثار المنهوبة، المنتشرة والمخفيّة في خزائن غير المسلمين.. ثمّ جلبها وتوفيرها في أيدي المهتمّين بالتّراث المخطوط، والمثابرين في خدمته ونشره وبعث حياة العلم والمعرفة في لنّفوس.
أخونا الدّكتور عمر لقمان من هؤلاء الرّجال القلائل المخلصين الأكفاء لهذه المهمّة الكبيرة والشّاقة.. فقد استطاع بعون من الله، وبفضل دأبه واستمراره في العمل، وبفضل أسفاره الكثيرة ورحلاته الطّويلة المتعدّدة أن يظفر بكثير من المخطوطات والوثائق والمنشورات، وأن يلتقي بكثير من الباحثين والعلماء الذين لهم اهتمام بشأن المخطوط، ومن يتوفّرون على حسّ مرهف به، ومن يملكون معرفة بأمكنة وجوده في مكتبات العالم الخاصّة والعامّة، ومن يتمتّعون بكفاية معتبرة في التّعامل معه، فأفاد منهم علما كبيرا، واستفاد طرقا في الوصول إليه، وكوّن علاقات متميّزة مع مختلف الأجناس، ساعدته على القيام بعمله؛ بالرّحلات المتواليّة، واللّقاءات المتعدّدة، والمحاورات الكثيرة.. وهو بدوره قدّم خبرته للطّلبة والباحثين النّاشئين في مجال التّعامل مع المخطوط؛ تصفّحا له ومعالجة وتحقيقا ودراسة وغيرها.. قام بهذا العمل في مؤسّسات علميّة ومخابر متخصّصة وورشات خاصّة، وفي ندوات عامّة، وفي كلّ مناسبة متاحة لتقديم خدمة لمن يطلبها.
تجمّعت عنده مخطوطات ووثائق عديدة، تتكوّن منها مكتبة كاملة.. كان المرحوم في صدد التّحضير لفتح مكتبة للمخطوطات، أعدّ لها مشروعا خاصّا في دار خاصّة في القرارة مسقطِ رأسه، لكنّ المنيّة عاجلته - ولكلّ أجل كتاب - فتأجّل المشروع. نسأل الله أن يوفّق أبناءه وأصدقاءه وكلّ من يتعامل مع التّراث والمخطوط أن يقوموا بهذا المشروع الكبير؛ خدمة للعلم، وصونا للتّراث، وتوجيها للأجيال الصّاعدة، وحفظا لما جمعه المرحوم بعد عناء كبير ومشقّة ومثابرة ومغالبة ورحلات عديدة.. فحقّ لأخينا الرّحالة أن يتنزع لقب ابن بطوطة الجزائر عن جدارة.. القيامُ بهذا المشروع هو البرّ به والوفاء لجهوده الـمضنيّة..
تروى عنه قصص وروايات ونوادر كثيرة في شغفه بالمخطوط، وهيامه به، وشدّة حرصه على إنقاذه من الضّياع والتّلف والإهمال.. ذكر أحد العمانيّين أنّ الدّكتور عمر لقمان دخل مسجدا في مدينة " إزكي" بسلطنة عمان، وبدأ ينظر طويلا إلى خزانة كتب في المسجد، فقال له هذا الشّخص يا دكتور لا يوجد في الخزانة مخطوط، أجابه الشّيخ عمر لعلّني أجد في الخزانة كتابا يدّلني على مكان وجود مخطوط.
نشر الشّيخ أحمد بن عبد الله الكندي هذه الرّسالة في الواتساب وفي صفحته الخاصّة، قال: هذه رسالة غالية من شيخي عمر، ردّ فيها على منشوري الخاصّ عنه في الفيس بوك: " سدّد الله خطاكم وتقبّل الله منكم دعواتكم، فهي أغلى من التّبر الأصفر، وأزكى من العنبر، أملي أن أجد كتابه (التّاريخ الكبير لوارجلان وسدراتة ووادي ريغ),
لا أظنّ أحدكم رأى أو سمع بهذا العنوان، وقد أذاعته إذاعة هولنديّة وأنا طفل صعير، وأذكر رقمه ومؤلّفه. وقد تجشّمت المشاقّ إلى ألمانيا التي ذكرت الإذاعة أنّه موجود فيها، فوجدت خرما في تلك الأعداد.. ومثل هذه المفاجآت كثير.. تحيّاتي.. عمر لقمان.. أمريكا. (الرّسالة كتبت في شهر أكتوبر 2020م).
هذه الرّسالة تفصح عن شخصيّة عمر لقمان المربوطة إلى المخطوط، والهائمة بحبّه منذ الصّغر.. فنشأ وترعرع على عشقه وشبّ عليه وشاب، ولهذه المشاعر استجاب، ولربوع العالم جاب، يبحث عنه ويتفقّده.
الدّكتور عمر بن حمّو سليمان بوعصبانه من مواليد مدينة القرارة، ولاية غرداية، الجزائر سنة 1942م، درس المرحلتين الابتدائيّة والثّانويّة في مسقط رأسه: في مدرسة الحياة ومعهد الحياة، والمرحلة الجامعيّة في جامعة الجزائر قسم التّاريخ والجغرافية، تخصّص جغرافية (وإن كان ميله للتّاريخ أكثر، وقد نشط فيه). حاصل على درجتي الماجستير والدّكتوراه، ودبلوم الدّراسات الإسلاميّة من معهد الدّراسات الإسلاميّة بالقاهرة.
* درّس في مدرسة الحياة ومعهد تكوين المعلّمين يورقلة، ثمّ في معهد الحياة، بداية من سنة 1977م. سنة 1979 سافر إلى ليبيا ودرّس في مدرسة الفتح التّابعة لجمعيّة الفتح بطرابلس الغرب. انتقل للتّدريس في معهد القضاء الشّرعي بمسقط (سلطة عمان) في خريف سنة 1993م، دام فيه إلى شهر يونيو عام 1998م. عاد إلى الجزائر، ثمّ التحق في بداية الألفية الثّالثة للتّدريس في جامعة وهران (الجزائر) معهد الحضارة. عاد إلى سلطنة عمان ليلتحق بجامعة نزوى ويشتغل في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدّراسات العربيّة والإنسانيّة، وكان مشرفا على قسم المخطوطات فيه.
* كان له دور كبير في التّأسيس للعمل في المخطوط في المركز؛ تدريسا وإشرافا على تدريب الطّلبة في كيفيّة التّعامل معه، وقياما برحلات إلى خارج سلطنة عمان لجلب مخطوطات للمركز، خاصّة إلى زنجبار وكينيا وغيرهما.. كما كانت له علاقة مع هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيّة العمانيّة في المجال.
* عيّن عضوا في إدارة عشيرة البلات بالقرارة سنة 1979م، وانتخب عضوا في المجس الشّعبي الولائي (ولاية الأغواط) سنة 1979 إلى غاية سنة 1984م. انضمّ إلى حلقة عزّابة القرارة في نوفمبر 1990م. عمل عضوا فعّالا في مخبر المغرب العربي للمخطوطات.
* الشّيخ عمر لقمان نشط في عدّة حقول؛ تربويّة واجتماعيّة ودعويّة..كان له نشاط اجتماعي ودعوي كبير في مدينة وهران، يشهد المجتمع الوهراني – الشّباب بخاصّة – بدوره الكبير في توجيههم وإرشادهم والأخذ بأيديهم نحو الصّلاح والفلاح.
* نشط في كثير من مساجد الجزائر في مختلف المدن والقرى، كما كان له مثله مع الجاليّات الجزائريّة في الخارج، مثل سلطنة عمان وفرنسا وكندا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وغيرها,. أين حلّ نفع بنشاطه وأينع بأعماله الصّالحة، وأفاد بعلمه، وأنعش بأدبه وظرفه وذكائه وبديهته.. فلا غور في هذا التّميّز، فهو ابن أبيه الحكيم الظّريف حمّو بن عمر لقمان، المعروف بتلك الصّفات.
أرسل لي الشّيخ محمد بن سليمان الطّيواني (رئيس جمعيّة الاستقامة بالجزيرة الخضراء في تانزانيا) رسالة صوتيّة، يعزّينا في وفاة الشّيخ عمر لقمان.. جاء فيها: " دكتور السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حقيقة هذه التّعزية وجّهناها للعالم الإسلامي، حقيقة إنّنا فقدنا – بمعنى الكلمة – ذلكم العلم الكبير الجليل، المحقّق الذي ترك بصمات لا تنمحي، الرّجل الذي حقيقة لنا تاريخ كبير معه، أنا شخصيّا تتلمذت عنده، وكان حبّا لنا ورحمة وتأييدا، وهو كان من الأوائل الذين نقلوا رسائلنا لفتح علاقات معكم يا شيخ، مع الدّكتور محمّد ناصر، هناك رسالة – تقريبا – بأربع صفحات، ولا أزال أحتفظ بنسخة منها، وقد كتبتها بخطّ يدي، ولـمّا جاء الرّدّ الإيجاب، نقل الدّكتور لقمان الرّسالة إلى الشّيخ خلفان (بن سليمان الطّيواني). وكم زارنا هنا في الجزيرة؛ خدمة للمخطوطات، خدمة للإسلام والمسلمين يا شيخ، ولذلك ياشيخ سبقتني، ولكن نعزّيكم ونعزّي أنفسنا يا شيخ، نتمنّى أن تصل كلماتنا إلى كلّ الذين نزلت عليهم الفاجعة. نسأل الله أ يجعله من أهل الجنّة ويغفر له ويرحمه ويجمعنا مع الأنبياء والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقا.. شكرا جزيلا.
* من مؤلّفات الدّكتور عمر لقمان: معالم الحضارة الإسلاميّة بوارجلان (رسالة ماجستير)، سير الوساني (تحقيق ودراسة) (أطروحة دكتوراه)، روايات الأشياخ ( تحقيق)، منتقيات من التّراث (مقالات ومحاضرات).بالإضافة إلى مقالات ودراسات، ومحاضرات ألقاها في ندوات وملتقيات ومنتديات.. داخل الجزائر وخارجها.. له أدب رفيع وشعر بديع، وإن كان مقلاّ فيه.. طلبت عدّة مرّات من أخي وصديقي ورفيق دربي في العمل والسّفر الشّيخ عمر لقمان تدوين رحلاته، وتسجيل تجاربه في البحث والتّنقيب عن المخطوط؛ ليستفيد منها من يريد السّير في مسارك. أرجو أن يكون قد ترك في مكتبته ما طلبناه منه.
جمعتني به أسفار ورحلات كثيرة، إلى ليبيا وتونس ومصر وعمان، وفرنسا وهولاندا وبريطانيا.. فقد كان نعم الرّفيق، ونعم الأنيس في كلّ هذه الرّحلات..
هذه نبذة مختصرة من سيرة المرحوم عمر بن حمّو لقمان حرّرناها من الذّاكرة. قد تحتاج إلى التّدقيق والتّحقيق.. عجّلنا بها؛ رغبة في التّعريف بشخصيّة الرّجل الكبير الذي لا يعرفه إلاّ القليل. عسى أن تكون لنا إسهامات أخرى في مزيد من الدّراسات في نتاج المرحوم وأعماله.
* توفّاه الله في شهر الشّهداء يوم الجمعة: 15 من شعبان 1443ه/ 18 من مارس 2022م..رحمه الله رحمة واسعة وشملة بالمغفرة، وأسكنه فسيح جنّاته، إنّه سميع قريب مجيب. فهو شهيد العلم والبحث..
الجزائر يوم الإثنين: 18 من شعبان 1443ه/ 21 من مارس 2022م
الدّكتور محمّد بن قاسم ناصر بوحجام