بسم الله الرحمن الرحيم

"الكتاب الجزائري والأفق الكوني"

جمعية التراث سفيرة الجزائر بغير اعتماد

 

"أربعمائة عنوانٍ، وحوالي خمسين عنوانا جديداً" تلكم هي لغةُ الأرقام لمشاركةِ "جمعية التراث" في المعرض الدولي للكتاب بمسقط، سلطنة عمان؛ أمَّا لغةُ المعنى، أعني الدلالةَ الثقافيةَ، والرؤيةَ الفكريةَ، والبعدَ الحضاريَ؛ فلا أملك اللسان الذي به ألهج، ولا القلم الذي به أنسُج؛ غير أنَّ لي قلبًا مرهفًا، يَسبيه – واللهِ – لحظ الجمال، ويذوب – تا الله – بين أحضانِ الجلال.

من عام 1428ه/2007م إلى هذا العام 1445ه/2024م والكتابُ الجزائري لم يغب عن "معرض مسقط الدولي للكتاب"؛ لم يكن السبيلُ سالكًا، بل كان الظرف للأسف على المشرِفين دالكًا*، وإن شئتَ فقُل كان أحيانا هالكًا؛ غير أنَّ "عزائم الرجال" ذلَّلت الصعاب، و"رجال العزائم" هزئوا بالسَّراب.

في العام الأوَّل شاركت "جمعية التراث" بإصداراتها المتنوّعة البديعة، ولم تكن يومها تملك القدرةَ على الشحن؛ فسافر مَن كُلِّف بالعرض محمَّلاً بحقائب مثقلة أسفارًا، فيها من كلّ عنوانٍ نسخةٌ أو نسختان؛ وبينما الناس يبيعون إصداراتهم ومنشوراتهم، من كلّ بلاد العالم؛ راحَ الممثّل الوحيد للجزائر، يَعرض العناوين عرضًا، ويسرد قصصها الطريفة للسامعين سردًا؛ غير أنَّ المفارقة جاءت من حيث لا يُحتسب؛ فعددُ الروَّاد كثير مقارنة بدور النشر المجاورة، والجناح دوما عامر بالعلماء والطلبة، والفضلاء والزبائن؛ بعضهم قطع المسافات الطولية داخل عمان ليزور جناح مغرب الأرض في مشرقها؛ ولقد هدَى الله سبحانه – بفضله ومنه وكرمه - القائمين إلى فكرتين، هما:

  • البيع بالاكتتاب؛ بحيث يدفع الزبونُ ثمن ما يشتريه، لكنَّه لا يحصل على النسخة الورقية، ولسوف تُرسل له من بعدُ، لكن لا يُعرف كيف؟ ولا متى؟؛ ثم يؤخذ رقم الهاتف، لعلَّ الأسباب تتعطَّل، فتردُّ الأمانات إلى أهلها؛ غير أنَّ العملية تمَّت كاملة ولله الحمد في بضع شهورٍ.
  • والفكرة الثانية، هي شراءُ ما له علاقة بالتراث وبالجزائر، من الدور العالمية التي نشرته، من مثل "معجم أعلام الإباضية" من "دار الغرب الإسلامي"؛ وعناوين أخرى من "دار الأوائل"، ومن "دار الفكر"... وهكذا؛ يتمُّ بيعها في جناح التراث.

ومن عجيب الأقدار، أنَّ البذرة التي بُذرت يومَها، وسقاها المشرفون على التراث من مُهجهم وأفئدتهم، وروَّوها مِن جهدهم وجهادهم، وصانوها بأموالهم وأنفسهم، صارت حقيقة ماثلة للعيان، وبناء شامخ الأركان؛ حقيقةٌ يسهل الحديث عنها بعظمة اللسان، لكن يصعب إنزال نَصيفها أو أقلَّ من ذلك إلى أرض الميدان.

ذلكم، ما أسميه "حضور الجزائر والجزائري، بروح الثورة لا بذهنية الثروة؛ وهو حضورٌ له طعم الغياب، وغياب فيه ريحُ الحضور؛ لكنَّ بركة الله لا تتمنَّع، وروح المقاومة لا تنقطع... فيولد كلُّ شيء من لا شيءٍ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم".

وإن كان لا بدَّ من التذكير بذوي الفضل، وبأهل الفضيلة، ولا ريب أنَّهم يرفضون التنويه بأسمائهم تورُّعا وتواضعا؛ لكننا نورد بعض أوصافهم أداءً للأمانة، وتنشيطا للهمَّة، ورسما لمعالم القدوة؛ في بلدٍ هو أحوج ما يكون – البارحة، واليومَ، وغدًا – إلى "جُرعات من الأمل"، وإلى "قناطير من العمل"؛ حتى نئد "التشاؤم" في رحمه، ونغتال "السوداوية" في مهدها، ونقضي على "الأماني" وهي تحبو في خدرها**.

فرئيس الجمعية اليومَ، سار على درب مَن سبقه من علماء ومشايخ وروادٍ؛ ثم أضاف إلى مجدهم مجدًا تليدًا؛ وهو بحقٍّ واضع القاطرة على السكَّة، وراعي النخلة وهي لِينَة (ليّنة) هشَّة، ثم أطعم مَن معه ومن بعده "رُطبا جنيًّا"، ووسعهم رجاء أبيًّا؛ في سموّ فكر، وغزارة علم، ورجحان عقلٍ... حيَّاه الله وبيَّاه.

وكذا أمين الجمعية اليومَ؛ فهو بهدوءٍ وتؤدة يشقُّ الأرض للسيل قبل أن تمطر؛ وإذا اجتمع الناس للاحتفاء والاحتفال، "أخفى رأسه"*** ولاذ بالفرار؛ ثم انتبذ على إثر مريمَ البتول مَكانا قصيًّا****؛ وهو بحول الله مرزوق مثلما رُزقت، بحركته وسكونه، بليله ونهاره، بعقله وقلبه، بصدقه وإخلاصه؛ وإذا سئل "أنى لكَ هذا؟"، أجاب فورًا: "هو من عند الله، إنَّ الله يرزق من يشاء بغير حساب"...

وثلة من الشبَاب الرباني، الذي تعلَّق بالعلم وبالكتاب، وصار يُذكر إذا ذكِر، ويحضر إذا حضر، ثم يغيب إذا غاب؛ ثلَّة من الأصفياء الأوفياء الأنقياء؛ ممن اتخذ النقاء أرضًا، والوفاء سماءً، والصفاء أفقًا... ولا بدَّ من كلمة شكر لهم وعنهم؛ وإن كنَّا نحمّلهم اليوم أكثرَ مما يحملون؛ ونذكّرهم بمقولة أبينا وأبيهم وأبو الجمعية، فضيلة الشيخ عدون رحمه الله: "إننا أوجدنا حلولا لعصرنا، فعليكم أنتم أن توجدوا حلولا لعصركم"؛ ثم نهمس في أذنهم قائلين: "رجاء لا تعتقدوا الوصول، ومن ظنَّ أنه وصل فقد ضلَّ؛ اعقِدوا النية للبداية عند كلّ نهاية، واحرصوا على حسن النهاية عند كلّ بداية... تنجحوا، وتفلحوا، وتبلغوا".

وأساتذةٌ من "رحم التراث"، بل إنَّ التراث وُلدت من "رحم بعضهم"، رافقوا المعرض تباعا لسنواتٍ؛ فكانوا الوجه الوضَّاء، الواهبين الإباء، والمانحين المضاء؛ إنهم لسان الجمعية وقلمها في الجزائر وخارجها، في عمان وفي كل مكان؛ يمثّلونها في مختلف الدوائر والهيئات، ويحاورون باسمها العلماءَ والشخصيات... لهم منَّا ألف سلام وسلام، كل باسمه ووسمه ورسمه.

هذه شهادتي، ووصيتي، ونصيحتي؛ وهذا بعض ما جادت به قريحتي، وأنا أخشى وقوعَ ما كتبتُ بين يدي أرباب الأدب؛ فينخلوا مقولتي نخلاً، ويسلخوا عبارتي سلخًا؛ والحال أني أتيت بجرَّتي، مُردّدا مع الشاعر مقولته الخالدة:

ولـمَّا رأيتُ القوم شدُّوا رِحالهم ... إلى بحركَ الطَّامي أتيتُ بجرَّتي

ثم جئتُ بعنزتي على هُزالها، وها أنا أعرضها على الشارين، وأنشِد مع المنشدين:

هزُلت حتى بدا من هُزالها ... كلاهما، وسامها كلُّ مفلس

أخي القارئ العزيز؛ حاشاك أن تستسقي من جرَّتي، وأنت على رأس بئر زمزم، أو على ضفاف النيل مرتويا...

أخي السامع الكريم؛ حاشاك أن تبتاع مني عنزتي، وأنت الغنيُّ قلبا وقالبا، جسما وروحا؛ ولقد بات لك الحال – بفضل الله – مستويا...

لكن، ماذا يضيرك أن تشجّعني وترفع من معنوياتي؛ فإنَّ لي حاجة إلى كل قلبٍ محبٍّ، وكلمةٍ طيبة، ويدٍ سخية؛ حاجةَ "تراثنا" إلى كلّ فلسٍ، وكلّ فكرة، وكلّ لفظة، وكلّ دعاء ... تدفع بها قُدما، لتعلو بنفسها وبأهلها وبوطنها إلى ذرى العزة والفخار، والشهامة والدثار.

أليست الجزائر في مسقطَ وفي غيرها من أرض الله، هي نفسها الجزائرُ التي غناها مفدي، فقال مخاطبا ومبالِغا:

جزائر يا مطـلع المعجزات...ويا حجَّـة الله في الكــــــــــــائنات

ويا بسمة الرّب في أرضـه...ويا وجهه الضاحك القسـمات

ويا لوحـة في سجلّ الخـلود...تموج بها الصور الحالمــــــــــــــــــــــــات

ويا قـصة بثّ فيها الوجود...معـاني السـموّ بروع الحيــــــــــــــــــــــــاة

ويا صفحة خطّ فـيها البـقا...بنار ونورٍ جـهـاد الأبـــــــــــــــــــــــــاة

شغلنا الورى، وملأنا الدنا

بشـعر نرتـله كالـصلاة

تسابيحه من حنايا الجزائر

تسابيحه من حنايا الجزائر... تسابيحه من حنايا الجزائر... تسابيحه من حنايا الجزائر...

د. محمد بن موسى باباعمي

العذيبة، مسقط، سلطنة عمان

15 شعبان 1445ه/24 فيفري 2024م

------------

*"بل كان الظرف للأسف على المشرفين دالكا": يقال دالك فلان فلانا إذا صابره، ودالك غريم غريمه إذا ماطله؛ وكلا المعنيين يصح بالمقام.

**"ونقضي على "الأماني" وهي تحبو في خدرها": الخدر كل ما واراك من بيت ونحوه.

***"أخفى رأسه" (دارجة)، يعني أن توارى عن الأعين كي لا يحمَد ولا يذكر اسمه؛ ولعل في الفصحى نظيرا له، لا أعلم، والله أعلم.

****لا حرج في اللغة العربية، وفي ثقافتنا الإسلامية، من التمثيل للرجل بالمرأة، ومما يذكر أنَّ الشيخ محمد انبانوح الإمام، قال لطالب صحح له خطأ، في المعهد الجابري: "أصبتِ وأخطأ عمر"؛ فغضب الطالب؛ وقال الأستاذ: "أنت لست امرأة، وأنا لست عمر، والأمثال لا تتغير".

اسم الكاتب