الفصل الثاني: عصر الشيخ البطاشي وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية
المبحث الثاني: الحالة الاقتصادية
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية
المبحث الأول: الحالة السياسية
إن المتتبع للأحداث والتطورات السياسية العمانية خلال القرن الرابع عشر الهجري يجد زخما من المستجدات والقلاقل الداخلية لا سيما في الفترة التي أعقبت استشهاد الإمام عزان بن قيس رحمه الله حتى مبايعة الإمام سالم بن راشد الخروصي رحمه الله 1287-1331هـ وكذلك الفترة التي أعقبت وفاة الإمام الخليلي رحمه الله ومبايعة الإمام غالب فقد كانت فترة عصيبة شهدت بؤر صراع داخلي قبلي تارة وسياسي تارة أخرى فقد كانت الفتنة الطائفية الهناوية والغافرية متأججة وفي أوج ذروتها وهي التي قسمت البلاد إلى شطرين قبائل هناوية وقبائل غافرية والحلف هنا حلف ولاء بحت لا علاقة له بالنسب أو المذهب وكم من حرب قامت بين الفريقين بداعي الجاهلية والعصبية الممقوتة.
إلا أن الفرقة لم تكن محصورة على الحلفين فقط بل تعدته إلى داخل الحلف الواحد فكثيرا ما تجد الاقتتال بين القبائل الهناوية وحدها وكذلك الحال بالنسبة للغافرية بل في أحيان كثيرة يكون الاقتتال داخل القبيلة الواحدة. 
وهناك الاقتتال السياسي وقد تزعم هذا القتال التيار الديني المتحالف قبليا الذي كانت له محاولات عديدة لإحياء الإمامة بدأ بزعامة الشيخ المحتسب صالح بن علي الحارثي ت 1314 ه ومرورا بمحاولات عديدة حتى النهضة التي قادها الإمام السالمي وأدت إلى إحياء الإمامة من جديد بمبايعة الإمام سالم بن راشد الخروصي سنة 1331هـ وما أعقب ذلك من تقسيم عمان إلى عمان الساحل وكان خاضعا لحكم السلطان وعمان الداخل المعروف بموالاته لحزب الإمامة. 
وقد عرفت فتره حكم الإمام الخليلي 1338-1373هـ هدوءا على كل الجبهات فقد سجل التاريخ أن هذه الفترة شهدت أفول نجم عصبية الغافرية والهناوية تلك العصبية التي سطع نجمها بدأ من دولة محمد بن ناصر الغافري الذي بويع سنة 1137هـ والحروب التي سبقتها مع خلف بن مبارك الهنائي ومن شايعه والحروب اللاحقة التي أتت على الأخضر واليابس وكان من نتيجتها مقتل الزعيمين الكبيرين وهلاك جزء كبير من جيشهما والقبائل المتحالفة معهما. 
وبلغ من شمول هذه الفتنة واتساعها أن عمت كل أجزاء عمان حتى حدود دولة قطر المعروفة اليوم وبلغ صداها الشرق الأفريقي وتأثرت بها القبائل العمانية هناك وكانت لها آثار وخيمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 
كما لا يمكن بحال أن نغفل دور السيد سعيد بن تيمور في إطفاء نار هذه العصبية المقيتة فقد كان دوره لا يقل عن دور نظيره الخليلي وقد تطرق الشيخ محمد بن شامس البطاشي في الجزء العاشر من السلاسل لفتنة الافتراق هذه وعقد لها بابا عنوانه افتراق أهل عمان إلى هناوي وغافري جاء فيه:
وأصل ذاك ما ترى من فتن **** مما ذكرناه بنظمنا السني
فيما مضى وفي الذي سياتي **** ومن حروب ومقارعات
فمن غدا في هذه الثوائر **** معاضدا في أمره للغافري
ووقفوا لديه في القضيه **** هم الأولى سموا بغافريه
ومن غدا مناصرا فيها خلف **** نجل مبارك وعنده وقف
سموا الهناوية والكل هوى **** وباطل غوى به من قد غوى
وأوقع الفتنة في عمانا **** وفرقة عمياء حتى الآنا
قد جعلتها رؤسا النفاق **** دينا وما عن القضا من واقي
كم دماء سفكت بريه **** لأجل هذي الفرقة العميه
وكم من الأموال والحريم **** قد استبيحت لهوى مقيم
واضطرمت نيرانها في المصر **** جميعه وفوق كل قطر
من قطر إلى ظفار النائيه **** هم يتداعون بهذي التسميه
وهي إلى ذا الزمن المعكوس **** نيرانها تضرم في النفوس
فنسأل الرحمن ذا الجلال **** سلامة من هذه الأحوال
وفي باب أخر عنوانه حروب القبائل في عمان وهذا الباب فريد في التاريخ العماني كونه المرجع الوحيد الذي يؤرخ للحروب القبلية العمانية يشير شيخنا في نهاية الباب إلى اجتماع الكلمة ووحدة الموقف بين الإمام الخليلي والسلطان سعيد بن تيمور وأن هذا كان سبب خمود تلك الحروب والنزاعات ومما قاله:
انظر إلى هذي الحروب الجمة **** وما علية وقعوا من ورطة
قد خسروا دنياهم والدينا **** يا شوم رأيهم وذاقوا الهونا
ولم يزالوا في ضلال لهم **** وفي مهالك عليها ارتطموا
حتى عليهم منّ ذو الجلال **** بجمع شمل وسداد حال
بوحدة بين الخليلي العلم **** ونجل تيمور المليك ذي الهمم
فانطفأت بالسيرة السنيه **** أكثر ذي الحروب والبليه
وانتهت الدعاية المزعومه **** بينهم والفتن القديمه
وسكنت حال عمان الوسطى **** وملئت عدلا بهم وقسطا
فيا بني عمان يا إخوان **** لا يستخفنكم الشيطان
تناصروا تآزروا تآلفوا **** ووحدوا كلمتكم تناصفوا
الله ربكم وأحمد الأبر **** نبيكم خير نبي للبشر
ودينكم حقا هو الإسلام **** كتاب ربي لكم الإمام
فاعتصموا به وبالذي اثر **** عن النبي الهاشمي من خبر
فإن في ذين النجاة لكم **** من كيد شيطان ونفس يضرم
واتبعوا لسيرة الأسلاف **** أهل الهدى والصدق والعفاف
ولم تقتصر التهدئة على جبهة الحرب القبلية فقط بل تعدتها إلى الصلح بين الزعامتين السلطنة والإمامة فلم يكن بينهما كبير خلاف وحسنت العلاقات وتوطدت الصداقات بين الإمام والسلطان وعرف كل حق الآخر وعاشت الرعية في أمان. 
وبوفاة الإمام الخليلي رحمه الله سنة 1373هـ ومبايعة الإمام غالب بن علي الهنائي دخلت عمان مرحلة النزاع من جديد فقد اتسع الرقع على الإمام من داخل حزبه إذ انشق عليه أركان دولته وأقاربه ومن كان يرتجي نصره ومؤازرته ناهيك بخلافه مع السلطان سعيد بن تيمور الذي تطور إلى نزاع مسلح بين الطرفين اتسعت دائرته شيئا فشيئا لصالح السلطان حتى تم حسمه في معركة الجبل الأخضر التي استمرت ما يقارب السنتين تلاها استسلام جيش الإمام نتيجة عدم تكافؤ القوى وتدخل أطراف خارجية وكذلك نتيجة تخاذل بعض أعوان الإمام ومستشاريه أعقبه خروج الإمام وقيادات دولته إلى المنفى. 
لقد تمكن السلطان بعد انكسار جيش الإمام في معركة الجبل من بسط نفوذه على عمان من أقصاها إلى أقصاها وغدت كل البلاد خاضعة لحكمه لأول مرة في تاريخ عمان الحديث منذ حكم الإمام سالم بن راشد الخروصي وافتراق عمان إلى سلطنة وإمامة. 
إلا أن الوضع الجديد لم يؤد إلى المأمول منه فقد دخلت عمان مرحلة جديدة من الكبت والقمع وتعدد الممنوعات والانغلاق على الذات كما جرى تتبع رجال دولة الإمام والمحسوبين عليها من قادة وشيوخ قبائل وقضاة وولاة وكل من طالته تهمة الموالاة وتم الزج بكثير منهم في السجون ولم يسلم من السجن إلا من فر إلى خارج البلاد أو اختبأ عن أعين السلطة في داخل البلاد. 
لقد عاش شيخنا البطاشي رحمه الله في خضم هذه الأحداث وعاصرها واكتوى بنارها وناله من شررها أذى كثير وكان أحد المطلوبين للسلطة بتهمة موالاة الإمامة وجرت محاولات كثيرة لاعتقاله سلمه الله من جميعها ولكنه بقي محصورا في حدود ولاية قريات وكانت تحركاته محدودة ومحسوبة طيلة حكم السلطان سعيد بن تيمور ولم تفلح كل محاولات إغرائه من قبل الحكومة بالتوجه إلى مسقط فقد كان حذرا متوجسا خيفة معتبرا بحال من سبقه من أشياخ العلم كما كانت تصله تحذيرات من الأصدقاء والعلماء فقد كتب له أحدهم مرة على عجل محذرا جملة قصيرة في مبناها كبيرة في معناها يقول فيها: فظن شرا وكن منها على حذر. 
ورغم القيود المفروضة والمخاطر المحدقة لم يستسلم رحمه الله للواقع بل كابد المشاق وتحمل الصعاب وجازف بسلامته مرات كثيرة ومن هذه المخاطر سفرته لحج بيت الله الحرام سنة 1376هـ فقد خرج متنكرا متخفيا ودخل مسقط بواسطة أحد أصدقائه ومنها سلك طريق الباطنة إلى دبي فقطر فالمملكة العربية السعودية وهناك التقى بالقيادات العمانية في الخارج. 
وقد جاء في السيرة الذاتية للشيخ محمد بن شامس رحمه الله تصوير للوضع السياسي آنذاك:
وفي سنة ست وسبعين خرجت من الوطن قاصدًا حج بيت الله الحرام لكن بغير إذن من حكومة مسقط حيث إن الحكومة في ذلك الوقت سيطرت على الموقف ومنعت خروج الذين تسميهم الشيوخ من عمان لأن الخارجين من عمان وهما طالب وصالح بن عيسى انضموا إلى الحكومة السعودية وأقاموا يحاولون الكرة على عمان. 
وفي أثناء ذلك كان خروجنا إلى الحج وقد اتفق الخروج في شهر شعبان سنة ست وسبعين ونزلنا إلى قريات ثم توجهنا إلى حطاط ثم لوادي الميح ودخلت مطرح بصفة المستخفي لأن الحكومة لا تسمح لي بالخروج وقد نزلت ببيت سالم بن زاهر المعشري ومعي الأخ مهنا بن حمود والولد سلطان وفي يوم 18 شعبان ركبنا في سيارة لرجل من أهل دبي فذهب بنا يقطع الباطنة لكنه يسير بأناة وبقينا في الطريق مقدار أربعة أيام إلى أن وصلنا دبي ولم يعثر علينا أحد ومن هناك خرجنا في لنج إلى قطر وقد أصابنا في البحر طوفان عظيم كدنا أن نغرق فاضطر صاحب اللنج أن يرجع إلى دبي وأقمنا فيها أيامًا حتى سكن البحر ثم ركبنا اللنج الأولى مرة ثانية فهاج البحر علينا أيضًا واضطر الملاح أن يلجأ إلى جزيرة تسمى الصير فبقينا هناك يومين في البحر والسماء تمطر وفي اليوم الثالث توجهنا إلى قطر فنزلنا فيها عند أحد من أصحابنا العمانيين وكان الوقت شهر رمضان ثم توجهنا إلى طريق سلوى فنزلنا بسلوى. 
وكان رئيس الشرطة رجل قصير يسمى إبراهيم وفيه من الحدة والغلظة ما لا يوصف وكان عندي جزء من كتاب غاية المأمول فقبضوه فحملوه فسرت تابعًا له فقلت: لأي شيء قبضتم هذا الكتاب؟ فقال: هذا غران؟ أي قرآن فقلت له: مأخوذ من القرآن فقال: اقرأ منه فقرأت مسائل من البيوع فقال: ما فيه شرك فقلت: أعوذ بالله من الشرك وأخيرًا أعطاني إياه. 
وقد كنت حاملاً كتابًا من إبراهيم بن عيسى فدخلت أنا وأصحابي بذلك الكتاب ومضينا إلى الدمام وكان يومئذ بالدمام المشايخ صالح بن عيسى وطالب بن علي وقد جمعا جمعًا من العمانيين يحاولان الانقضاض على عمان وكان قد سبقهم الشيخ محمد بن عبد الله السالمي ونزل دبي بمن معه وتوجه إلى عمان من جهة الشرقية وكان على ميعاد مع الشيخ طالب لكن اللنج التي ركب فيها الشيخ طالب أصابها خراب فرجعت إلى الدمام من حدود قطر والسالمي توجه إلى الشرقية ومع وصوله بمن معه انضم إليهم الشيخ إبراهيم بن عيسى شقيق الشيخ صالح فجمعا جمعًا من الرجال وتوجهت إليهما الآمال وكل أهل عمان راغب فيهم وقد عارضهم من قبل السلطان الشيخ أحمد بن محمد بن عيسى وجمع جمعًا ضدهم وبقي الجيشان متقاربين فجيش إبراهيم والسالمي بالظاهر وجيش أحمد بن محمد بالقابل وقد أمده السلطان بأخيه طارق وأرسل السلطان إلى إبراهيم والسالمي النصائح وأن لا يتورطا في حرب ودام الرباط أيامًا وكل هذا وإبراهيم والسالمي ينتظران وصول طالب من الغرب وتأتيهما الرسل من الشيخ سليمان بن حمير أنه عندهما على الأمر الذي يحاولانه وأخيرًا مل إبراهيم وخرج من إبرا متوجهًا إلى السلطان بدون أمان ولما وصل مسقط قبض عليه وأودع في السجن وانطفأت الثورة. 
وبعد ذلك وصل طالب ونزل الباطنة ثم توجه إلى الداخلية ووصل عند أخيه الإمام وكلمه أن يرجع في الأمر كما كان وقد أفتاه جمع من العلماء أن إمامته باقية فقام غالب وطالب أولاً على بهلى وانتزعاها من يد واليها ثم إن السلطان لما بلغه الأمر أرسل أخاه طارقًا وتوجه إلى بلدان بني هناة فرأى الأمر صعبًا فرجع إلى مسكد وغالب وطالب توجها إلى نزوى فاحتلاها واحتلا مركز فرق وغنما ما فيه من الآلات وانضم إليهما سليمان بن حمير وخرجوا قاصدين سمائل لكن السلطان قام في الأمر وأرسل جيشًا من الشارقة تسانده الطائرات والدبابات وجيشًا آخر برئاسة السيد أحمد بن إبراهيم على طريق وادي سمائل فتمركز جيش الشارقة ببلدة عز وأقام يهاجم طالبًا بفرق والطائرات تحلق فوق نزوى والبركة وتضرب الحصون وبقيت المناوشات أيامًا وجيش السيد أحمد بن إبراهيم تقدم إلى إمطي حيث جيش الإمام وسليمان بن حمير تحيز إلى هناك والطائرات تحلق فوقهم وتضربهم. 
ثم إن مقاومة طالب ضعفت من حيث أن الدبابات تهجم عليهم وتضربهم وضربهم هم لا يؤثر فيها شيئًا فانهزموا إلى الجبل الأخضر وكذلك غالب وسليمان انهزموا إلى الجبل الأخضر وتوجه السيد أحمد إلى نزوى وقهر الحصون وعنده بنو رواحة وبنو غافر وجمع من قبائل عمان من الحواسنة وبني عمر أما الإمام وطالب وسليمان فإنهم تمركزوا بالجبل وقبضوا على منافذه وجيش السلطان أحاط بالجبل من كل جانب من الشرق والغرب والجنوب والشمال ودام الحصار عشرين شهرًا وأهل الجبل تصلهم بعض الإمدادات من مصر. 
ثم إن أهل الجبل وهنت قوتهم وطال عليهم البلاء وقد ضجر القاطنون بالجبل من المحاربين القائمين عندهم وطلبوا الراحة لأنفسهم فدبروا مكيدة للمجاهدين وأرسلوا إلى قوات السلطان أن ينزلوهم الجبل على غير علم من الإمام وسليمان بن حمير ومن معهم فما شعر المجاهدون إلا والجيش نازل عندهم فخرجوا كل إلى جهة أما الإمام وسليمان بن حمير وطالب فإنهم خرجوا إلى بلدان بني هناة ثم توجهوا إلى الباطنة ثم خرجوا من الأسود ثم توجهوا إلى السعودية وأصحابهم كل أحد خرج إلى جهة وقبض السلطان على الجبل وعلى جميع عمان وانتهى الأمر وأنا في تلك المدة مقيم بالوطن وبي خوف من قبل السيد أحمد بن إبراهيم وبقي يرسل إليّ الكتب يطلبني الوصول إلى مسكد وتصلني كتب من الأصدقاء أنك لا تصل وكن على حذر فانك مكتوب في القائمة فامتنعت من الوصول. أه. 
ولم يزل الوضع السياسي مشحونا في البلد تتقاذفه الأزمات الواحدة تلو الأخرى حتى من الله على البلاد والعباد بفجر جديد انبلج نوره بقيادة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله فرفع القيود المفروضة وكسر حواجز العزلة وأمن الناس وأفرغ السجون من شاغليها وجمع ما تفرق من شتات الأمة العمانية وراح يبني الوطن ويعلي شأن المواطن وفتح أبواب الوطن لجميع أبنائه فعاد المغتربون من أبناء عمان إلى الوطن ومنهم اللاجئون السياسيون وانتفت أسباب المعارضة ودواعيها وانعكس الوضع الجديد على الجميع بمن فيهم شيخنا رحمه الله. 
تطرق الشيخ رحمه الله في سيرته إلى تقلد جلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله مقاليد الحكم في عمان وبداية عهد جديد للعمانيين حيث قال:
............ والسلطان قابوس وصل إلى مسقط فأذعنت له عمان بأسرها طائعة غير مكرهة فأول أمر قام به فك الأسرى أشياخ العلم والأكابر من السجن واستدعى العمانيين الخارجين إلى الخليج وأعطاهم الأمان وولاهم الولايات وشكل حكومة جديدة ووزارات عديدة وأقبل على إصلاح البلاد ودخلت عمان مرحلة جديدة وفاض فيها الخير وحصل الأمان واستدعى أهل العلم وقلدهم القضاء ورتب الرواتب للأيتام والفقراء والأكابر وبنى المساجد الجوامع والمدارس وحسن الصلات مع الدول العربية وغير العربية حتى أصبح الوحيد في ملوك العرب في السياسة وبذل الأموال الطائلة في إصلاح الأنهار وقد طلبني في أن أنضم في سلك القضاة فولاني محكمة الاستئناف ثم ضم إليّ الشيخ إبراهيم بن سيف الكندي ثم الشيخ أحمد بن حمد الخليلي فبقينا مدة نباشر قضايا الاستئناف. أه. 
هكذا كان الوضع السياسي في عمان أما إقليميا فلم يكن الوضع بأحسن حالا فالبلاد العربية والإسلامية كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار الغربي ودولة الخلافة العثمانية آذنت شمسها بالأفول وقد شهدت السنين الأولى من حياة شيخنا رحمه الله أكبر نكبتين حلتا بالعرب والمسلمين أما الأولى فتمثلت في وعد بلفور المشئوم الذي أعطى فلسطين لليهود والثانية كانت نهاية حقبة الخلافة الإسلامية بتآمر صليبي عالمي عليها وتواطؤ عربي أغرته أمنيات المستعمر الجديد. 
إن دولة الخلافة العثمانية وإن لم تكن قائمة على النهج الإسلامي الصحيح كدولة الخلافة الراشدة إلا أنها لم تكن أسوأ سلوكا من دولة بني مروان ولا من دولة بني العباس نعم كانت السيادة فيها للجنس التركي ولكنها كانت حامي حمى الإسلام والذاب عن حوزة العرب والمسلمين وما تجرأ النصارى على بلاد العرب والمسلمين إلا بعد إثخان الرجل المريض وسقوط دولة الخلافة وما اشرأبت أعناق بني صهيون لفلسطين وضربوا نحوها أكباد الإبل من حدب أوروبا وصوبها إلا بعد أن انفرط عقد دولة الخلافة الإسلامية. 
لقد ترتب على نهاية الحكم العثماني استبدال البلاد العربية الاستعمار الغربي الإنجليزي والفرنسي والإيطالي بالتبعية العثمانية الإسلامية وغدت بلادهم مطمعا لدول الغرب وثرواتهم نهبا للمستعمرين وقسمت بلاد العرب بين الأوروبيين كما تقسم تركة الهالك بين وراثه. 
هذا الوضع الجديد للبلاد العربية والإسلامية حرك كوامن النفوس وأسال قريحة الشعراء فتفاعلت ألسنتهم مع الحدث وجلل المصاب ولم يكن شيخنا رحمه الله بمنأى عن نكبات الأمة ولا بمعزل عن آلامها وآمالها برغم بدائية وسائل الاتصال بالخارج آنذاك. 
لقد هز كيانه وحرك من شعوره ما حل بالمسلمين والعرب فها هو ينعى لحالهم ويأسف على ضياع مجدهم وعزهم فهذه أرجوزة له نظمها سنة 1353هـ وهو في مقتبل شبابه يستنهض فيها بني الإسلام للذب عن محارم الدين والذود عن حياض الوطن يقول فيها:
فديتكم يا معشر الإسلام **** حاموا عن الإسلام بالصمصام
وجاهدوا في الله أعداء الهدى **** فالحال قد ضاق فما نحيا سدى
هذا عدو الله قد تملكا **** برا وبحرا وضاق المسلكا
قد سلبوا منا ممالك العرب **** وكل مسلم أصاروا في تعب
وضايقونا في بلاد ربنا **** لا يرقبون ذمة في عهدنا
إليهم يجبى خراج العرب **** لم يعذروا شيخا وخودا وصبي
قد عكس الأمر فصاروا بعدما **** كانوا يسوقون إلينا المغرما
نسوقه نحن إليهم ضعف ما **** نأخذه منهم فزادوا في النما
يا حسرة النفس ويا حرا الكبد **** ماذا بنا نحيا على هذا النكد
لم لا نسل الصارم الصعب على **** هاماتهم نفرقها مع الطلى
حتى نبيد بالضبا خضراهم **** ونملأ الأرض دما منهم
حتى يكون الدين لله العلي **** ونمحق الكفر بحد الفيصل
ويتواصل هذا الدفق الإيماني مع كل قضايا الأمة المصيرية فنجده إبان أزمة السويس والحرب الثلاثية العدوانية على مصر يصدح بلامية مؤثرة يكبر فيها الزعيم المصري جمال عبد الناصر ويحيي مواقفه البطولية يقول فيها:
لله يومك يا جمال **** يا من له الشرف الكمال
يا ناصر الإسلام يا **** حامي الجزيرة والقنال
يا رافعا علم الديانة **** فوق هامات الضلال
فبك العروبة تنتمي **** شرفا وعزا في المآل. 
وتستثيره نخوة الزعيم الصومالي محمد فارح عيديد بعد أن سجلت شاشات التلفزة العالمية سحل الجندي الأمريكي في شوارع مقديشو وعلى أثرها أعلنت أمريكا انسحابها المخزي من الصومال فيقول في قصيدة له مخاطبا عيديد:
عيديد أنت الضيغم المقدام **** من ذا جمالهم ومن صدام
ولما طحنت حرب الخليج الأولى طرفي النزاع وأهلكت الحرث والنسل ناشد رحمه الله العراق وإيران في قصيدة له وقف الحرب مذكرا إياهما بحرمة الدم الإسلامي. 
وكذا لما غزا صدام الكويت ناشده الخروج وحقن دم المسلمين وغيرها من المواقف التي أسمع فيها صوته للعالم. 
المبحث الثاني: الحالة الاقتصادية
عرفت عمان في القرن الرابع عشر الهجري تدهورا خطيرا في الوضع الاقتصادي شأنها شأن دول المنطقة والعالم بسبب الحربين العالميتين إذ كانت عمان تستورد كثيرا من الحبوب لا سيما الأرز من شبه القارة الهندية وقد تأثرت الواردات كثيرا بسبب الحرب وانعدام الأمن في المحيط الهندي مما أدى إلى شح غذائي وركود اقتصادي عام. 
لقد أحس الناس في عمان بوطأة الحرب عليهم فاحتالوا لأنفسهم بزراعة المحاصيل من حبوب وغيرها مما أسهم في التخفيف نوعا ما من شدة الأزمة وكان شيخنا رحمه الله قد توسع في زراعة المحاصيل واستصلاح الأراضي في تلك الفترة فعمر بلدة (المنثقب) وهي بلدة نائية بولاية قريات وأصلح فلجها وسواقيها وغرس بها كثيرا من النخل وزرع الأرض بالحبوب وغيرها. 
ويتطرق الشيخ رحمه الله في سيرته إلى الجدب الذي أصاب عمان سنة 1368هـ وكيف أن الإمام الخليلي رحمه الله صلى بالناس الاستسقاء أياما متوالية فلم يخصبوا وأنه أي الإمام كتب إليه كتابا يسأله فيه عما إذا كان ينقم الناس عليه شيئا في سيرته جاء في السيرة:
وفي سنة ثمان وستين أصاب عمان جدب شديد وقحط وخرج الإمام الخليلي ومعه أهل نزوى لصلاة الاستسقاء في أول يوم من ربيع الأول وثاني يوم إلى مدة ثمانية أيام ولم يسقوا وبعد ذلك كتب الإمام كتبًا ثلاثة واحدًا لي وواحدًا لسفيان وواحدًا لزاهر العثماني وأرسل بهن الخادم مبروك وكان في كتابه إلى الشيخ الولد محمد بن شامس البطاشي أما بعد فقد كان نبي الله داود عليه السلام يخرج في الليل متنكرًا يسأل الناس عن سيرته وعما ينقم عليه وأريد منك أن تبين لي إن كان ينقم علي شيء من الأمور وتبينه لي وسيأتيك الخادم مبروك بكرة الصباح وأعطه الكتاب. 
وكتب لسفيان وزاهر بمثل ذلك فكتبت إليه إلى حضرة سيدنا إمام المسلمين محمد بن عبد الله سلام عليك ورحمة الله كتابك وصلني وفهمت ما ذكرته وأقول أيها الإمام إنا لا نعيب عليك في حكم ولا في قسم ولقد سرت في هذا الزمان سيرة أصبحت غرة في جبين الدهر ولكن الذي يقوله الناس إن القصور جاء من قبل العمال وأنك إذا رفع إليك قصور من عامل ما عاقبته بل ولا عاتبته فتجرأ العمال واقتدى الأول بالآخر واتسع الخرق وظنوا أن هذه السيرة لا تجرحهم عندك ولقد قال قائل إن عمر بن عبد العزيز ليس بدون عمر بن الخطاب في ورعه وفضله ولكن رجاله ليسوا كرجال عمر بن الخطاب فأجابه مجيب أن لو كان عمر مثل عمر لكان رجاله كرجال عمر لأن الأمير كالسوق تجلب إليه البضاعة التي تروج فيه فانظروا في الأمر والله يوفقكم لصلاح الأمة والسلام. أه. 
وجاء في السيرة أيضا أن الإمام الخليلي رحمه الله عقد مساء اليوم التالي اجتماعا خاصا حضره الأشياخ سفيان بن محمد الراشدي وزاهر العثماني وشيخنا البطاشي وحضر معهم الشيخ طالب بن علي الهنائي ويوسف بن سعيد الرواحي ثم أخرج لهم الإمام كتاب الشيخ البطاشي وقرأه عليهم وقررهم على ما جاء فيه فوافقوا شيخنا فيما كتب والخلاصة أن الأمر استقر على أن يكون الشيخ طالب بن علي الهنائي مسئولا عن مالية الدولة ويكون هو الناظر على العمال والمحاسب لهم ولكن الشيخ طالب اشترط شروطًا منها أن يكون الداخل والخارج كله بيده وأن يكون هو الذي يحاسب العمال وأن لا يكتب الإمام إلى العمال أي رسالة مباشرة بل يكتبها إليه. 
فوافق الإمام على ذلك وكتب العهد لطالب ووقع عليه الحاضرون وتم الأمر ولما بان هذا الأمر وقع اضطراب وأنكره بعض الزعماء وقالوا لا نرضى بتولية طالب وشددوا في ذلك ولكن الإمام رفض قولهم وصمم على الأمر. 
قال رحمه الله في سيرته:
وتولى طالب الأمور وحاسب العمال وجلسنا أنا وإياه يومًا فحسبنا مداخيل الدولة من زكاة وبيت مال وغيره فقدرناها بمائة ألف قرش وخمسين ألفا وحسبنا ما تحتاجه الدولة للولاة والقضاة والعسكر وما يحتاجه الإمام لحصن نزوى فبلغ دون مائة الألف ومضت الأمور على ذلك مدة ثم إن الإمام اضطره الناس إلى كتابة الأوامر إلى العمال وتضعضعت الأمور. أه. 
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية
سأقتصر في الحديث عن الحالة الاجتماعية بالكلام عن الجانب الاجتماعي الذي اكتنف حياة الشيخ رحمه الله أو كان له دور مباشر فيه دون الحديث عن الجانب الاجتماعي لعموم المجتمع العماني وسأجعل من سيرة الشيخ الذاتية صفحة أقرأ منها كثيرا من أحداث المجتمع وقضاياه. 
لم تكن الظروف مواتية لشيخنا في كثير من الأزمان والأوقات بسبب ما يعتري المجتمع بين الفينة والأخرى من قضايا وأزمات لا يملك الشيخ إلا أن يلج غمارها في محاولة منه لفض نزاع هذه المعمعة الاجتماعية ولقد كان من قدر الشيخ أن يكون في محل المسؤولية الاجتماعية وقد صرح رحمه الله في أكثر من موضع من مؤلفاته بكثرة مقاساته ومعاناته من سياسة قومه وبعض أقاربه فبنو بطاش ليس من السهل قيادهم وكذلك ما كان للشيخ رحمه الله أن يكون لهم مطواعا في كل مبتغاهم ويظهر رحمه الله نزوعه إلى الشكوى والعتاب في قصيدة له يخاطب فيها قومه ويعتب عليهم وما يلبث أن يتصدى له ابن عمه الشيخ خالد بن مهنا البطاشي رحمه الله بقصيدة يدعوه فيها إلى تحمل أعباء قومه والصبر على زلاتهم فيرد عليه الشيخ بقصيدة أخرى يبرر فيها موقفه. 
وقصيدة الشيخ رحمه الله أنشأها أثناء قيامه بوادي العربيين وهي بلاد نائية بقريات استوطنها مدة من الزمن وعمرها وشق فيها فلجا وغرس كثيرا من النخل. 
وداع من فؤاد غير قالي **** إلى بلدي وإخواني وآلي
أودع والفؤاد به اضطراب **** وإني عن بلادي غير سالي
ولكني جعلت الصبر درعا **** وحسن الصبر من شيم الرجال
سأجعل هجرتي ومحط رحلي **** بواد العرب ما بين الجبال
وأخدم ملتي وأصون ديني **** وعرضي من ملاحاة الرجال
بنو بطاش ما شكروا لسعيي **** وصبري في الملمات الثقال
ألم أخدمهم وأذب عنهم **** مجدا باليمين وبالشمال
أدافع عن مآثرهم وأحمي **** حماهم أن يقارب باغتيال
فأبدوا لي مكائد هائلات **** وخبث طوية وفساد حال
ومن فرط الجهالة أن أرادوا **** أكون لهم عذيلا في الغوال
أغالبهم أماكرهم أداجي **** أخادعهم بقيل ثم قال
فلا والله لا يلفون مني **** ولو جهدوا بكل الاحتيال
سوى كرم السجية والتأني **** وحلم لا يوازن بالجبال
على التقوى أساس جميع أمري **** ولست بخانع أبدا لحال. 
وتأتي قصيدة الشيخ خالد بن مهنا رحمه الله تعقيبا على قصيدة شيخنا وهي تحمل في مضمونها معاني المواساة والاستنهاض والصبر على المحن وعدم اليأس والاستسلام وفيها دعوة صادقه إلى الاقتداء بالسلف كأبي بلال المرداس بن حدير إمام الشراة ومضرب المثل في الورع والزهد والصبر والسير على نهج الكتاب العزيز وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسير الخلفاء الراشدين. 
محمد في زمانك لا تبالي **** ولا تفزع إلى قمم الجبال
فليس الاعتزال به انتفاع **** لطلاب المكارم والمعالي
وما حرث بوادي العرب يغني **** ولو أضحى من الطيب الحلال
أراك من السآمة في مكان **** بعبء من ممارسة الرجال 
أحب سلامة أم راحة أم **** وحاشا أن أقول لجمع مال
فإن تشدد رحالك حيث تهوى **** ألا سارع إلى حط الرحال
فإن الحر يحتمل الرزايا **** ويصبر فوق ما صبر الجبال
أما لك فوق ما نالوا بناة **** المعالي من مثال أبي بلال
يطيب لك الكرى والقوم ترمى **** من الحساد خسفا بالنبال
يطيب لك الكرى بالفرع يا ذا **** ومن أعني بأسوأ شر حال
فليس الحب حبا جاهليا **** إذا كافحت عن أهل وآل
وما قال الكتاب بأن يحل ال **** فتى بالدين في شعف الجبال
ولا قال النبي ألا ففروا **** ولا الخلفاء أرباب الكمال
ولكن حرضوا للسيف حتى **** أروك السيف مفتاح المعالي
فهم باعوا النفوس وأوردوها **** حياض الموت في رهج القتال
أفادتهم ممارسة البرايا **** منازل عند ربك ذي الجلال
ألا دعني أموت أسى لحالي **** فيا رب اكفني آفات حالي
وهذا النظم في آثار نظم **** تقدم قبل في العشر الخوالي 
أرجيه الوصول إليك كيما **** ترى ما فيه من حسن المقال. 
ثم يكون الرد من شيخنا على قصيدة الشيخ خالد بهذه القصيدة التي يفند فيها ما جاء من عتاب على لسان ابن عمه ويبين له من خلالها ما حمله على اعتزال قومه وانقطاعه بوادي العرب (العربيين) - وكان اعتزالا مؤقتا - وأن هذا الاعتزال له ما يبرره في نظره وانه آثر سلامة الدين على إرضاء قومه ومطاوعته لهم على ما أرادوه عليه. 
لقد أكثرت خالد في الجدال **** فدعني ويك من قيل وقال
فما أنا من يقعقع خلفه بالس **** نان ومن ينبه في المقال
وما فزعي لوادي العرب خوفا **** وجبنا من ممارسة الرجال
وقومك ليس فيهم من رجاء **** بأن يهدوا إلى طرق الكمال
لقد مارستهم وحملت منهم **** أمورا لا تقدر بالمثال
أريد حياته ويريد قتلي **** ألا دعني أموت أسى لحالي
وليس الدهر دهر أبي بلال **** ومن في الناس مثل أبي بلال
مضى زمن بذي الثفنات قدما **** ومختار وأبرهة هلال
هم باعوا النفوس وقدموها **** إلى مرضاة ربك ذي الجلال
ألا ربحت تجارتهم وطابت **** مساعيهم وفازوا في المآل
ولست بمن يبيت قرير عين **** قرينا للغواني والغوالي
سألبس للبلا جلد السبنتي **** وأرخص في المعالي كل غال
أتحسب أنني فارقت قومي **** وأنسى المكرمات ولا أبالي
لعمرك لم أجانبهم لأني **** أريد سلامة وخلو بالي
ولكني أحاول ما أرجي **** به ذخرا وفخرا في مآلي
ولست أبيع ديني بالدنايا **** ولو قسمت ما بين النصال
وهلا جئت تحمل ما عناني **** فتعرف كيف مقدار الرجال
أتدفعني إلى خطر خطير **** وترقد آمنا وخلي بالي
فدعني والخطوب فإن عندي **** لعلما في مغالبة الرجال
ولكني على ديني حريص **** وعرضي لست أبذله لحال
سلام الله كل صباح يوم **** عليك ومن لديك أبا هلال. 
وإذا عرجنا إلى سلاسل الذهب سنسمع من الشيخ هذه الشكاية التي أعاقت كثيرا من مشاريعه وأعماله وصعبت عليه في كثير من الأمور فها هو يتحدث في مقدمة السلاسل عما كان يقاسيه من أهوال ومحن جعلته يتأنى في نظم السلاسل بل ويتوقف عن النظم ونحن إذا عرفنا أن البدايات الأولى لنظم السلاسل كانت في حياة الإمام الخليلي رحمه الله وأن الشيخ رحمه الله عرض على الإمام شيئا من نظم السلاسل فاستحسنه ثم توقف عنه حتى سنة 1382هـ حين شرع في نظمه من جديد وأتمه سنة 1385هـ وإذا عرفت أن الإمام الخليلي توفي سنة 1373هـ سيتبين لك كم من الزمن تأخر مشروع السلاسل بسب الظروف التي أحاطت بحياة الشيخ قال في السلاسل:
وكنت قد عرضت مبدأ كلمي **** على الخليلي الإمام الأكرم
فاستحسن النظم متى رآه **** وشكر السعي لمن أبداه
لكنني من ذلك الأوان ما **** شرعت فيه بل بقيت محجما
لما أقاسيه من الأهوال **** دوما ومن مكائد الرجال
ومن خطوب تفلق الجلمودا **** وتقطع القلوب والكبودا
وفي خلال هذه الزلازل **** شمرت للنظم بعزم فاصل
فجاء والحمد لذي الجلال **** نظما حوى جواهر الأقوال
وتأبى حوادث الزمان إلا أن تنغص على الشيخ صفو حياته وتكدر عليه حلو عيشه فذي هي الدسائس تحاك ضده والمؤامرات تنسج خيوطها حوله والحائكون والناسجون هم في أحيان كثيرة من بني الآباء والأجداد وكأنه لزاما على المصلحين في كل جيل وزمان أن يكون أول مناوئيهم هم الأقارب ومن تتبع سير الأنبياء والأئمة والعلماء ألفى أقاربهم أكبر عقبة أمام دعوتهم وعلى سبيل هؤلاء المصلحين وفي دربهم سار الشيخ وبالمثل سار بعض أقاربه على نهج من تقدمهم ممن كان حجر عثرة أمام صوت الحق وراية الإيمان. 
جاء في سيرة الشيخ الذاتية ما يشير إلى بعض الخلافات العائلية بينه وأقاربه:
وفي سنة اثنتين وثمانين بدأت بنظم سلاسل الذهب وبقيت مدة ثلاث سنين فأكملته وجاء مقدار مائة ألف بيت وأربعة وعشرين ألفا وفي أثناء ذلك وقعت بيننا و................... مناوشات وفتن ورفع............. أمره إلى السيد أحمد بن إبراهيم فاغتنم الفرصة وكتب إليّ بإرسال عشرة رجال من أبنائي وأبناء عمي فأرسلتهم فأودعهم السجن ومن جملتهم الولد نبهان وكان يومئذ سنه مقدار أربعة عشر عامًا وبقوا في السجن مدة مقدار ما يشفي غيظه مني ثم أطلقهم وبقيت محصورًا لا أقدر أخرج من عمان بل ولا إلى مسقط إلا على وجل. أه
ويذكر شيخنا رحمه الله في سيرته حادثة وقعت بوادي الطائيين وهي في مجملها تدل على قبلية المجتمع آنذاك وعلى مدى نفوذ الأعراف والتقاليد القبلية. 
لقد أوشك القوم أن يأخذوا بظاهر حديث انصر أخاك ظالما أو مظلوما لولا أن تداركتهم عناية الله ومن بعدها همم المصلحين من أبناء المجتمع وعزائمهم التي لا تفتر للحظة ولا يقر لها قرار حتى ترى حكم الله وشرعه قد ساد على جميع الأعراف والشرائع. 
هذه الحادثة التي كان لشيخنا رحمه الله يد طولى في إخماد أوارها ما كان لأحد أن يتنبأ بما ستؤول إليه نتيجتها وما سيترتب عليها من عواقب وخيمة على المجتمع بأسره لو قدر التمكين والغلبة لناعق القبلية والعصبية المقيتة. 
وقد تكلم الشيخ رحمه الله في سيرته عن هذه الحادثة:
وفي تلك السنة بعينها (1371هـ) وقع حادث في بلد الغبرة من وادي الطائيين جاء رجل رحبي ورجل بوصافي فضربا في محمد بن عامر وناصر بن سيف الحنظليين وكانا يصليان فرمياهما بتفق فأصابت محمد بن عامر جراحة وناصر بن سيف جراحة في فخذيهما ثم إن أولاد سعيد بن عويد هجما علي البوصافي ورمياه بتفق فأصابه في فخذه أيضا فعظم الخطب وتوجهت التهمة على السيابيين أنهم هم الذين أثاروا الفتنة فسار الصريخ في الوادي إلى (احدا) ووصل الحناظلة من السهل والجبل واجتمع بنو بطاش وبنو عمر وبنو ذخر والسوطيون. 
ووصل الصريخ إلينا بالمسفاة بينما نحن بعد العصر إذ سمعنا صارخًا فوق قرن الجبل الشرقي والتفق فسألنا ما الخبر فأجابنا الصارخ إن السيابيين قتلوا محمد بن عامر وناصر بن سيف وذهب صارخ آخر إلى الحيل بعد أن مروا بالمزارع وكان محمد بن حارث بالحيل ونحن حالاً أرسلنا صارخًا إلى عباية وآخر إلى محيا ومع وصول الرجال بادرنا إلى المزارع وكان بعض أهل المزارع ذهبوا حالاً إلى الغبرة مع وصول الصارخ ونحن بتنا بالمزارع وبالصباح بادرنا إلى ضيقة بمن عندنا فوصلنا مع صلاة الظهر ولما وصلنا وجدنا بني بطاش ومن معهم من أهل الوادي محدقين بالسيابيين ويحاولون الانقضاض عليهم بحجة أنهم هم الفاعلون حينئذ قمنا ونادينا في القوم أنا ما وصلنا حمية للحناظلة ولا غيرهم فالحناظلة والسيابيون رعايا الإمام والجميع تحت ذمة الإمام ولا يجري عليهم إلا حكم الشرع وكان عندنا الأخ خالد بن مهنا و هو يومئذ والي الإمام على ذلك الوادي وحالاً أمرنا أهل المقابض أن ينزلوا من مقابضهم ونادينا بالأمان على الجميع وأن القضية مرجعها الشرع ولا مجال للحمية والتعصبات. 
فامتثل الجميع وحالاً أرسلنا إلى سيف بن حمد رئيس السيابيين استفسارًا عن الواقع فأجاب إني ممتثل لأمر الشرع وما عندي خلاف إلا أني اطلب من المشايخ أن لا يكون سجني إلا في نزوى وقال: إني بريء من هذه التهمة ولكن كلامي الآن لا يقبل وطلب أن ينزل للحكم صباح غد وكان رسولنا إليه هلال بن أحمد المعمري فأمهلناه إلى الصباح ثم وصلنا بعض المرجفين قائلا: إن سيف بن حمد سيخرج بالليل وسيذهب إلى أولاد حموده محتميًا بهم فلا تمهلوه فقلنا له: إنا أعطيناه كلامًا ولا ننقضه ونحاشيه أن يهرب من الحق وفي تلك الليلة ذهبنا إلى الحناظلة ناصر ومحمد بن عامر وقلنا لهم: لا يحل لكم أن توجهوا التهمة إلى سيف بن حمد لتشفوا غيظكم إن كان الرجل تعرفون براءته فأجابوا إنا لا نتهمه ونبريه وفي الصباح أرسلنا له فوصل منقادًا للحق فقلنا له: إن الحناظلة برؤوك من التهمة فأخذناه عندهم وأصلحنا بينه وبينهم وألقينا عليهم النصائح وتوجهت التهمة إلى الرحبي إلا انه هرب فلم نعثر عليه وعلى محمد بن سيف النيري فأخذناه وسلمناه إلى الوالي فقيده وأرسله إلى نزوى وانتهت القضية. أه. 
ويسوق لنا الشيخ رحمه الله في سيرته مثالا آخر على حالة المجتمع في الثلث الأخير من القرن الرابع عشر الهجري فيتطرق إلى ذكر فتنة حدثت بقريات بين بعض القبائل كادت أن تخرج عن نطاق السيطرة لولا التدخل الحاسم في الوقت المناسب. 
قال في موضع من سيرته:
وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف وقعت فتنة بقريات بين بني وهيب وبني سنان فتضاربوا بالسياط وتراموا بالحجارة وذلك في سوق قريات وكان الوالي يومئذ بقريات السيد حمود بن علي بن حمود فقام لحجز الفتنة بمن معه من العسكر لكن الأمر كان عسيرًا لكثرة المتقاتلين فما استطاع أن يكف الفتنة ودامت إلى أن حجز الليل بينهم وأصاب الفريقين جراح كثير فوصل إلينا الصريخ فهبطنا من المسفاة وهبط محمد بن حارث من الحيل واجتمعنا في بلدة عفا وأرسلنا إلى الوالي أنا قادمون لنصرتك على من خالفك فأجابنا أن مرحبًا بكم فوصلنا مقدار خمسمائة رجل وأنخنا بمسجد الشيخ مالك فوصلنا الوالي السيد حمود فقلنا له: إنا واصلون لمناصرتك وإنا نطلب منك أن نتوسط بين هؤلاء المتقاتلين بصلح فإن قبلوه فهو المراد وإلا فالأمر إليك ونحن معك على من يخالف الحق فأسعف فذهبنا أولاً إلى بني سنان فتلقونا بالترحيب وطلبنا منهم أن يقربوا إلينا الجرحى فقربوهم وكانوا مقدار خمسة وعشرين وفي بعضهم جراح خطير فسألناهم أن نتوسط بينهم بصلح فأجابونا أن الدم دمكم والصلح وغيره بيدكم وما عندنا كلام ثم ذهبنا إلى بني وهيب فكلمناهم بما كلمنا به بنو سنان فما كان منهم إلا التفويض ونظرنا جرحاهم فإذا هم متكافئون فأصلحنا بينهم على هدم الكائن والمباراة وتم الأمر ورجعنا إلى الوالي فتمم الأمر لكن طلب منا تقريب ثمانية رجال من الفريقين فقربناهم له وصفدهم بالحديد وانتهى الأمر على ذلك. أه. 
وخلاصة القول أن المجتمع العماني إلى ما قبل عصر النهضة كانت تغلب عليه بين الفينة والأخرى بعض النعرات القبلية التي إن وجدت من يئدها في مهدها ويعالجها بدواء العقل والحكمة فسرعان ما تضمحل وتختفي وهذا دور قام به المصلحون والعلماء وكل محب وساع إلى الخير. 
يتبع .../...