بسم الله الرحمن الرحيم
غزّة ظاهرة معرفيّة
ممّا علّمتنا غزّة بطوفان الأقصى المبارك على القضيّة الفلسطينيّة، المهلك للكيان الصّهيوني، والعمليّات البطوليّة التي توالت من الغزّاويّين بمختلف أشكالها وألوانها ومستوياتها، التي هزمت الأعداء؛ من الصّهاينة وقوّات الأحزاب الملتفّة حولهم، والخونة المطبّعين بنذالتهم، والمنبطحين الأراذل، والمتخاذلين الأسافل، بل المتعاونين مع الطّغمة الفاسدة ... ممّا علّمتنا أن قوّة العلم والمعرفة تسبق قوّة السّلاح والتّجهيز الحربي، والإعداد العسكري.
الغزّاويّون استعدّوا بالإيمان أوّلا، والتّعلّق بتأييد الله ونصره، والتّشبّع بروح القرآن؛ تلاوة وحفظا وفهما له، واستثماره في حياتهم اليوميّة، عن دراية وقناعة بدوره الأساس في بناء شخصيّتهم، وحماية كيانهم؛ مهما يشتدّ العدو في عدوانه، ويستدّ ساعده في الضّرب والتّنكيل. وتتكاثر وتتعاظم مخطّطاته في القضاء عليهم.. فالإيمان سلاحهم، والقرآن حصنهم الذي يردّ عنهم ويصدّ ويسدّ الثّغرات التي يخالها العدوّ سُبُلا للإجهاز عليهم.. فبالعلم عرفوا كيف يواجهون الأخطار التي تنهال عليهم من الجيوش الجرّارة المدجّجة بأحدث أسلحة الدّمار الشّامل، وهم قلّة عددا وعدّة ونصرة ومساعدة، لكنّهم القلّة الصّغيرة الصّابرة على البلاء والجهاد، التي غلبت الفئة الكثيرة المنهارة معنويّا، بإذن الله أوّلا، ثمّ بالعلم والمعرفة القويّين ثانيا.
رجال درسوا علوما كثيرة؛ استعدادا بالقوّة المطلوبة والمأمور بها لإرهاب العدوّ - قوّة العلم من بين هذه القوّات- تسلّحوا بعلم التّخطيط الحربي، وعلم الاستراتيجيات، وعلم مواجهات الطّوارئ والنّوازل، وعلم المناورات العسكريّة، وعلم صنع السّلاح، وعلم التّدرّع بالصّبر والتّجلّد، وعلم مسايرة الحرب وتوجيهها ومواجهتها بما لا يترك للعدوّ فرصة لتحقيق أهدافه، وغيرها من العلوم التي تستنزف قوّات العدوّ، وتنسف مخطّطاته، وتطيح بكبريّائه، وتردِي بجبروته..
مِـمّا يردّده الحكماء: بالعلم ترقى الأمم وبالأخلاق تسود .. كلا العنصرين موجود عند أهل غزّة البواسل الحكماء في تسيير الحرب ضدّ العدوّ الصّهيوني الغاشم الجبان. بأخلاقهم القرآنيّة عزّزوا شخصيّتهم ووضعوا الثّقة في أنفسهم، فاندفعوا نحو الموت يطلبون الحياة الكريمة العزيزة. وانطلقوا في طوفان جارف دكّ صياصي المدّعي امتلاك قوّة لا تقهر. وبالمعرفة العالية استعدّوا -بعون الله وعزّته - لمعركة التّحرير الكاملة لأراضيهم المسلوبة..
ظلّ العلم يصحبهم في كلّ لحظات حياتهم في السّلم والحرب، في حال الأمن والخوف، في حال الاستقرار والاضطراب.. الـمدارس تنشط، والقرآن يتلى، والعلوم تلقّن.. تُقرَأ الكفاية العلميّة في خطاباتهم، وفي كلامهم العادي، وفي تحليلاتهم لوقائع الحرب المفتوحة عليهم؛ فصاحة في اللّغة العربيّة، تَـَمكُنًّا من اللّغات الأجنبيّة، تنوّعا في تناول الموضوعات بكفاية ودراية وقوّة.. بهذه القدرات العلميّة، أصبحوا خطرًا على الظّالمين والمعتدين؛ لأنّ من ملك العلم وأجاد استخدامه واستثماره ملك القوّة التي تبني الحياة بقواعد متينة، وفي الوقت نفسه ترهب العدوّ وتربكه، وتزرع فيه الخوف والهلع والاضطراب.. هذا ما يحدث الآن في ساحات معارك طوفان الأقصى.. ألا نُقِرُّ جميعا – نحن المسلمين - أنّ: "غزّة ظاهرة معرفيّة"، يجب دراستها والإفادة منها في بناء حباتنا على أسس متينة؛ لنخوض معارك الحياة بكلّ أشكالها وألوانها ومستجدّاها، بقوّة في الإمكانات، وثقة في النّفس؟.
الجزائر يوم الخميس: 12 شعبان 1445ه
22 فبراير 2024م
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام