تمر الذكرى 12 لوفاة الشيخ الخطيب المفوه الضرير؛ الإمام عبد الحميد كشك رحمة الله عليه (1933- 1996) وهي  06/ 12 /1996.

هذا الإمام الذي عرفه المسلمون من المحيط إلى الخليج عالي النبرة واضح الفكرة، غزير العبرة، هو من أبكى أقسى المسلمين قلوبا وأكثرهم ذنوبا فآبوا بفضل وعظه المؤثر إلى الهداية بعد ضلال، وإلى التقوى بعد الانحلال، فكان بحق من الأئمة الذين قال الله فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ...

 إيه لصبرك يا إمام، ولصبر تتجرعه وتسيغه ويحلو في حلقك رغم مرارته، أكثر من العسل المصفى، لأن لذة الصبر في جنب الله لا تساويها أية لذة إلا لذة الرضا عنه يوم تزل الأقدام وتطيش الأحلام تحت نداء "لمن الملك اليوم"؟.
    فضل الشيخ عبد الحميد كشك على الصحوة الإسلامية وتأثيره في الشعب الجزائري يكاد يعدل فضل وتأثير أكابر دعاة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لأنه جاء في وقت كانت الجمعية فيه مبعدة عن ممارسة أي نشاط في ظل حظر إنشاء الأحزاب والجمعيات، فسد بأشرطته -التي كانت أعز من الكبريت الأحمر على القلوب وفي متناول كل الجيوب- تلك الثلمة الكبيرة التي تركها غياب جمعية العلماء، -بل تغييبها- فانتفع به المرد والشيب والجاهل والمعلم، فضلا عن الانتفاع والانتعاش اللذين حظيت بهما اللغة العربية بفضل لغته البليغة السهلة التي كان يفهمها الجميع.
موهبته رحمه الله في الخطابة أكبر من موهبته في الكتابة ، وزاده الإيمان والصدق والإخلاص والغيرة ما جعله أحد النادرين في العالم الإسلامي من ناحية التأثير في الناس إذا تكلم، حيث لا تصيخ الأسماع وهي ملقاة بالكلية إلا إليه، فغزا بصوته الجهوري الصادق ... سيارات الأجرة والدكاكين والمقاهي والمطاعم، وما من أحد سمعه وإن كان مشغولا بأمر ذي بال إلا أصاخ إليه باهتمام ووقر في نفسه، إن كان حديث المعرفة به ألا يعود إلى بيته إلا بشريط من خطبه أو شريطين.
لقد أصبح الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله خطيبا متكلما في جميع الأمكنة حتى الثكنات العسكرية إذ لا تخلو غرف الضباط وصف الضباط والجنود من أشرطته حيث صار بالنسبة إلى الكثير أنيسا في الوحدة وحائلا بصوته المؤثر بين السامع وتطلعه إلى الآثام.
   لقد حفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمانية أعوام، وحصل بتفوق على شهادته في كلية أصول الدين بعد حصوله على الشهادة الثانوية الأزهرية فعينته وزارة الأوقاف المصرية إماما وهو ابن 31 سنة فما مرت سنتان حتى وجد نفسه رهن الحبس والاعتقال سنة 1966، أثناء المصائب التي نزلت على الإخوان في عهد جمال عبد الناصر ثم أطلق سراحه سنة 1968، في حين نفذ النظام الناصري الإعدام في حق صاحب الظلال الشهيد السيد قطب رحمه الله، رغم تدخل وساطات من كبراء دعاة وساسة العالم الإسلامي التي قابلها جمال عبد الناصر بالاستهتار.
   لم يهادن الإمام كشك ظلم النظام ولم يخادن على طريقة علماء السلطان أولئك الذين جروا الويل والثبور على أمة الإسلام بتبرير بقاء اليهود في فلسطين ووجوب هجرة الفلسطينيين، وبمعاهدة السلام مع أبناء القردة والخنازير التي أبرمها معهم نظام السادات بل هو بالذات، فاتهم نظامه بالخيانة من على منبر رسول الله غير مبال بما سيصيبه في جنب الله.
وها هو الشيخ كشك يعتقل مرة أخرى بمعية الكثير من أهل الرأي والسياسة في أحداث سبتمبر الشهيرة سنة 1981 ثم أطلق سراحه بعد عام وهو ممنوع من الخطابة والتدريس فلم يتقوقع على نفسه ولم يقابل الزمان الذي لا يداري ولا يمهل أحدا يمر مرور الكرام دون أن يحدث فيه ما يشهد له الزمان نفسه بالخلود، إذ عكف بعد منعه من الخطابة والتدريس على القلم والقرطاس فأثمرت تلك المدة القصيرة مؤلفات تزيد عن المائة، كان منها إتمامه تفسير القرآن الكريم "في رحاب القرآن" وقصص الأنبياء.
   بلغ عدد الأشرطة المسجلة حوالي ألفي شريط من خطبه التي ألقاها في مسجد "عين الحياة"
لقي الله عز وجل عن عمر يناهز الثالثة والستين وهي السنة التي التحق فيها الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، وكان ذلك في يوم جمعة قبل أن تقام الصلاة إذ توفي وهو ساجد لله رب العالمين، أي في أقرب ما يكون العبد لربه كما جاء في الحديث الشريف يوم 06 /12 /1996م.
رحمك الله وأجزل ثوابك وأكرم مثواك ومتعك ببصرك في أخراك في حضرة جلاله وجماله، كما متعك ببصيرتك في دنياك فكنت رغم فقدانك البصر ترى ما لا يراه المبصرون، وأنت تسلك طريقك إلى الله في ظل تلك المصائب والأهوال دون الحاجة إلى دليل }َإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}؟.
لم يقل الله عز وجل عن هذه الأمة ودعاتها وأئمتها حين قال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا{، لم يقل بعد ذلك "لما شكروا" وإنما قال: "لما صبروا" للدلالة والتمييز بين الغنى والسلطان والجاه الذي ينبغي أن يقابل بالشكر {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ{، ونادرا ما يكون ذلك من حظ العلماء الربانيين والدعاة، وبين الفقر والفتن التي تلاقي أغلبيتهم وهم يدعون إلى الله، وهو الأمر الذي ينبغي أن يقابل بالصبر وما ينطوي عليه من قوة في العزيمة وصلابة في الإرادة وثبات في القدرة، وإن أعظم الرسالات -كما أثبت التاريخ ذلك- لم تنتشر في الناس بكثرة المال وصولجان الجاه والسلطان، وإنما انتشرت بصبر أصحاب الأخدود وإيمان سحرة فرعون وصلبهم بعد الإيمان حين خروا لله في ذلك السجود، وبجر عيسى عليه السلام إلى الصلب وبكل هذه الأنواع من الفتن والمصائب في رسالة محمد عليه وعلى آله الصلاة السلام الذي التحق بربه ودرعه رهينة عند يهودي، تاركا أمة تتطلع إلى ملك سليمان فكان لها ذلك، ثم الذي كان حين جرت نفسها إلى الذل والهوان.

جريدة البصائر، الاثنين 17- 23  ذو الحجة 1429هـ / 15- 21  ديسمبر 2008 - العدد: 422

اسم الكاتب