أ. محمد أحمد جهلان
- لجنة التحرير في دورية الحياة -
أستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها
المركز الجامعي، غرداية.

هذه تسعُ سنواتٍ طُويت منذ أن صدر العدد الأوَّل من هذه المجلَّة المباركة،تسعُ سنوات حملت فيها راية الفكر المستنير،وانبرى كتَّابها الأوفياء لإعلاء كلمة الحق، وتبليغ العلم الرفيع، ونشر الفن البديع.
ونحن على عتبات العدد العاشر وهذه السنة العاشرة، نستوقف التاريخ نسائله عن مؤسسي هذه المجلة، ونستلهم العبر من مآثرهم، ونستشفُّ الفِكَر من تضحياتهم وخالص جهادهم.
فالمجلة بالنسبة لمؤسسة ”معهد الحياة“ ــــ كما أقرَّ الأديب الدكتور صالح الخرفي(رحمه الله)ـــــ «هي ذاكرة أمجادها على مرِّ الزمن وعبر الأجيال، ومرصد وقائعها وأحداثها، الناس يغدُون ويروحون وذاكرة المرء إلى نضوب، ويبقى ما يرصُدُ الكتَّابُ، أو تُسجِّلُه المجلَّة همزة وصلٍ بين الغادي والرائح».

صدقتَ ـــ والله ـــ يا صالحنا، فقد مضيتَ إلى بارئك بعد سنة واحدة من خطابك هذا في العدد الأوَّل من ”الحياة“، وبقي ذكرُك الصالحُ صلاحَ أعمالِكَ ونَفْعَ تآليفِكَ وكتاباتِكَ، كما بقي حرصُك على أن تكون افتتاحية العدد الثاني من المجلَّة بقلم شيخك وأستاذك الشيخ عدُّون (رحمه الله)فكان ذلك، وكتب متواضعًا كعادة العظماء أمثالكما: «أبى إلاَّ أن تكون الافتتاحيةُ لهذا العاجز البالغ من الكِبر عتيًّا، والذي أثقلت كاهِلَه التسعونُ وتوابعُها، وبينه وبين أن يطرق باب المائة خطواتٌ قلائل، إن أمهله الأجل، وإن كان ـــ والحمد لله ـــ لم يسأم تكاليف الحياة كما سئمها صاحب الثمانين ...»
هكذا ياشيخنا عدُّون افتتحتَ العدد الثاني من ”الحياة“.. فلم يكن موضوع «معـهد الـحـياة ورسـالـتـُه» كغيم المعرِّي كما قلتَ متواضعًا:
والـمَرءُ إِنْ لم تُفِدْ نَفْعًا إقَامَتـُهُ .:.:. غَيمٌ حَوى الشَّمسَ لَم يُمطِر وَلَم يَسِرِ
بل كان غيثاً نافعاً، وسحابة رشيديَّة العطاء، أمطرت وما زال خراجُها يُثـقِل صحيفة أعمالك من مشرق الأرض ومغربها. وظللت حانيا على هذه المجلة راعيًا لها رعاية الأب المربي لولده.. يُسعِدُك صدورُ العدد منها كلَّ فِطْرٍ سعادةَ الأطفال بالجديد يوم العيد، فـتسارع إلى تصفُّح فهرس بحوثها، فلا يشفي غليلك إلاَّ قراءتُها إلى آخرها، وهي لمَّا تصلْ بعدُ أيادي كثير من القراء، كما كان يؤرِّقك تأخُّر الكتاَّب أو تقاعُسُهم عن الكتابة فيها، فلا تنفكُّ تحرِّض أبناء ”معهد الحياة“ وأساتذته للاهتمام بها والإعلاء من شأنها.
نعم يا شيخنا؛ فلا يَقْدُرُ عظمة الأمانة حقَّ قدرها، وثِقَلَ مسؤولية بقاء هذه المجلة إلاَّ من عرف قيمتها، ونُبلَ رسالتِها، وسموَّ مطمحِها... فقد كنتَ كذلك حريصًا على سالفتها «جريدة الشباب» قبل سبعة عقود، وأنت الذي كتبت حامدًا لله في افتتاحية العدد الأوَّل من المرحلة العاشرة سنة 1936 بلسان عربي فصيح وأسلوب أدبي رفيع: «ونحن إذا انتصبنا لنشكر الله على ما أولانا من نعمة الاهتداء إلى إنشاء جريدتنا ”الشباب“ استنفذنا كلَّ جهدٍ دون أن نحصل على أدنى مَرَام؛ وإذا تذكَّرنا ما رَزَقَنا من التأييد على الاستمرار على إصدارها، وعلى القيام بما يقتضيه هذا الإصدارُ من جهودٍ وأتعاب، اتَّسع أمامَنا أفُقُ الحمد والشكر...
نعمة ٌجَلَّت علَى الوَصفِ كَمَا .:.:. أَنَّـها جَـلَّتْ عَلَى أَن تُشكَرَا».
وأستسمحُك يا شيخنا أن أنقل إلى قارئ اليوم رجاءك حينها متفائلا بمستقبل واعد بتطور الجريدة ورقيِّها إلى مصافِّ الصحف الكبرى، لتضاهيَ مثيلاتها المطبوعة في شمال إفريقيا!، ومحرِّضًا الكتاب على إثرائها والاستمرار في رعايتها، فكنت تقول: «على الكتاب أن يحقِّقوا ظننا فيهم باستفراغ جهدهم في خدمة أنفسهم بخدمة هذه الجريدة ...فنمدُّ أيدينا لرفع مستوى هذا المشروع الجليل، إلى سماء لا تطاولها سماء، وما ذلك على الله بعزيز».
عزيزي القارئ، تذكَّر أنَّ الشيخ عدُّون (رحمه الله) قد قال هذا الكلام قبل سبعين سنة كاملة، وبالضبط في العدد الأول من السنة العاشرة لجريدة «الشباب» الصادر بتاريخ 23 أفريل 1936... (انظر صورته في آخر هذا المقال)؛ فعزيمته الراسخة وحرصه على استمرار صدور «الحياة» هو الحرص نفسه على استمرار صدور «الشباب» قبل سبعة عقود، فهل اعتبر الشباب بأهمية الثبات على المبدأ بعد الاقتناع بنُبل الفكرة والإيمان بها؟، وهل انتفت المسؤولية المنوطةُ بنا نحن كتَّاب اليوم تجاه هذه المجلة المباركة أم أنَّها غدت أثقل وأوكد؟.
فارَقتَـنَا يا شيخنا ”عدُّون“، وخلَّفت بإذن الله رجالا على المحجَّة البيضاء، يحملون الراية، ويرفعون لواء التغيير وخدمة الأمَّة، واعلم بأنَّك تركت كتيبة علَّمتها أن تهب نفسَها للعلم، في عصر وهب الناس فيه أنفُسَهم للمال، وتيقَّن بأن مِن خَلَفِكَ جيل وأجيال، أنشأتها لتكون من حزب الله، في وقت يتربَّص بها الغربُ ليضُمَّها إلى حزب الشيطان...
وقبل سنةٍ فارقنا أحدُ أقطاب هذه المجلة وسالِفَـتها «الشباب»، فارَقَـنا الشيخ الأديب حمو بن عمر فخار والرفيق الأعلى اختار، بعد أن رصَّع ـــ في شبابه ـــ صفحات «الشباب» بأروع المقالات، ولم تكن افتتاحيته للعدد الأول من هذه المجلة سنة 1998، إلاَّ لؤلؤة العقد، أدبًا رائقًا، وتاريخًا شيِّقًا،مُعبِّرًا عن حنكة الحكيم الذي عرك الحياة وعركته، فتخطَّى العقبات، واستخلص العبر من النكسات والنكبات، عزمًا جديدًا متجددًا، متمثلاً قول الشاعر:
لا َتَحْسَبِ المجْدَ ثَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ .:.:. لَن تَبلُغَ المجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
فارقتنا قبل سنة تاركًا وصيتك الغالية لأبنائك الكتاب، بنصرة لغة القرآن وذَود الأعداء عنها، قلت حينها: «واعشقوا يا رجال الغد لغتكم عشق المجنون ليلاه، وارفعوا بها عقيرتكم في اعتزاز كما رفعها في بَـيْدَاه، (...) وفجِّروا يا مسلمين ينابيع لغتكم تفجير عدُوِّكُم فرنسا قنبلتها الذرية في أرضكم. وبدون ذلك لن يسلم دينُكُم ـــ والله ـــ ولا لسانكُم».
ثق يا شيخنا أن «الحياة » تقف اليوم مرابطة في هذا الثغر، وهي على عهدكم وعهد سلفكم الشيخ عدُّون والشيخ بيُّوض ما استطاعت، وكُتابها وإن اختلفت مشاربُهم وانتماءاتُهم فغايتهم واحدة واضحة وضوح المنهج والسبيل الذي رسمتم، حريصون على هذا الكنز الثمين، ممتثلون لقولك: «ألا فلتكونوا بمجلتكم يا خلفاءنا على الميراث الثمين بالمرصاد للهادمين، أوفياء للغة رب العالمين، ورسول خير المرسلين؛ وإلاَّ تكونوا فلا كنتم ولا كنَّا ـــ لا قدَّر الله ـــ».
عزيزي القارئ، هذه وقفة فرضتها مناسبة العدد العاشر «للحياة»، أردنا أن نطرزها بِدُررٍ من العدد الأول من السنة العاشرة «للشباب» ”حتى لا يظن المتأخر أنه نَبَتَ كالكمأة في الأرض لا جذور له يستمد منها الغذاء والنماء“.. ووقفنا مع ثلاثة رجال كانوا دعائم لهذا المشروع العظيم، ”الدكتور صالح الخرفي“، و”الشيخ عدُّون“، و”الشيخ حمو فخار“.
وإذا كنَّا قد عقدنا للأول ملتقى درسنا فيه بعضا من أدبه وتاريخه، كما أقمنا للأخير في هذه الصائفة مهرجانًا يستعرض بعضًا من محطَّات جهاده وكفاحه، فإنَّنا ـــ في هذا العدد الذي نرجوه ممتازًا ـــ نرى في عقدِ فصلٍ حول الشيخ عدُّون جُهدَ المُقلٍّ وأضعفَ الإيمان، متفائلين بأنَّ الله سيوفِّق الخلف لما هو أنسب بمقام الشيخ ومرتبته العالية، متبلِّغين بقول الشاعر:
تَفَاءَلْ بِمَا تَهوَى يَكُن، فَلَقَـلَّمَا .:.:. يُـقَالُ لِشيءٍ كَانَ إِلاَّ تَـكَـوَّنَا
عزيزي القارئ، هذه كلماتٌ مبعثرة أوحت بها المناسبة، فاسأل الله معنا أن يرحم مشايخنا وعلماءنا، ويغفر لنا زلاتِنا وأخطاءَنا، إنهَّ سميع مجيب.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُومِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّـئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة التوبة: 105) صدق الله العظيم


نشر المقال في دورية الحياة، العدد: 10، 1427هـ/2006م، ص12-17.

اسم الكاتب