اعتاد كل مذهب أن يطلقوا على أنفسهم أحب الأسماء – كأهل السنة ، أهل الاستقامة ، أهل العدل ، أهل الحق ، وأن يطلقوا على مخالفيهم أقبح الأسماء ، كأهل البدع ، أهل الأهواء ، أهل الضلال ، أهل الزيغ ، وكان الكثير منهم يفتحون أبواب الجنة على مصاريعها لاتباعهم ، ويقفلونها بإحكام أمام أنظار الآخرين ،
ويبلغ بهم التطرف إلى أن يقدموا فساق مذاهبهم على صلحاء غيرهم ، ومن الأمثلة القريبة أن فقهاء الأشاعرة يقولون بأن المسلم العاصي لا يخلد في النار وإن دخلها ، ولكن بعضهم يستثني المعتزلة من هذه القاعدة فيرميهم جميعا في النار بصلحائهم وفساقهم ثم يحكم عليهم بالخلود فيها رغم أنهم مسلمون .
الفرق الإسلامية كلها – في دعواها – ترجع إلى أصلين ثابتين هما : الكتاب والسنة ، وكل فرقة تزعم وتصر أنها هي التي تعمل بالكتاب وتحافظ على السنة ، وأن غيرها ليس كذلك . وعلى هذا الأساس قام ناس فاحتكروا لأنفسـهم اسـم ( أهل السنة) وناس (أهل الاستقامة) وناس ( أهل الحق )... الخ فأطلقوا على غيرهم عند التعميم كلمة المبتدعة أو أهل الأهواء أو غيرها من كلمات التضليل ثم انقسمت كل طائفة منهم على مذاهب كما قسموا أهل البدع في نظرهم على مذاهب ، ثم ألصقوا بكل طائفة أو فرقة أحكاما خاصة بها أو تشترك فيها مع غيرها، فأصبح كل مذهب من مذاهب المسلمين إذا نظرت إليه من زاوية أتباعه هو مذهب السنة ومذهب الحق ومذهب الاستقامة ومذهب العدل ومذهب الصواب وإذا نظرت إليه من زاوية مخالفيه فهو مذهب الأهواء ومذهب البدعة ومذهب الزيغ ومذهب الضلال . وينشأ الناشئ المسلم في أكناف إحداها فتعتاد أذنه على سماع هذه الأوصاف والنعوت ويتلقاها ويتشربها في غير كلفة حتى تصبح عقيدة غير خاضعة للنقاش أو المراجعة.
إن جميع المسلمين الذين يرجعون في دياتنهم إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هم من أهل السنة من أي فرقة كانوا ، لأي مذهب اتبعوا .
وقد كانت العصبيات المذهبية وأصابع السياسة ، وبُعدُ بعض المسلمين عن بعض ، وجهل أهل كل مذهب بما عليه الآخرون ، حواجز تحول دون تعرف المسلمين بعضهم ببعض .
أما الآن – وقد اختلط المسلمون بعضهم ببعض وعرف الكثير منهم المصطلحات أو بعض المفاهيم ، وتنشأ بدلا منها مفاهيم أو مصطلحات أخرى تكون اقرب إلى توحيد جميع صفوف المسلمين وتوحيد كلمتهم . فلا معنى أبدا أن يأتي إنسان يسهل عليه تماماً أن يستخف بأحكام الله فيرتكب ما نهاه عنه ويهمل ما أوجبه عليه ثم يزعم – في تبجح ظاهر – أنه سني أو من أهل السنة . فإن قابله إنسان آخر لا يتفق معه في المذهب رماه بأنه مبتدع رغم الصلاح والتقوى . والحقيقة عكس ما يقول .
لقد آن الأوان لأن تطلق كلمة أهل السنة على أهل الصلاح من كل فرقة ، وكلمة السني على كل فرد متمسك بالإسلام محافظ عليه حسب الأصول التي يرتكز عليه المذهب الذي ينتمي إليه ، وأن تطلق كلمة المبتدعة أو أهل الأهواء على كل مجموعة من الناس غير ملتزمة للإسلام سلوكا . وكلمة المبتدع أو صاحب البدعة على كل متهاون بأحكام الإسلام حسب المذهب الذي ينتمي إليه . لقد انقرض أتباع كثير من المذاهب الإسلامية كالظاهرية والمعتزلة والخوارج ولم يبق فيم أعلم إلا الماتريدية وهم أتباع أبي حنيفة والإباضية وهم أتباع جابر بن زيد والأشاعرة وهم أتباع مالك والشافعي والأثرية وهم أتباع أحمد في القديم وابن تيمية في الحديث وفرق من الشيعة تجمعها كلمة الشيعة وتفترق بأسماء خاصة كالزيدية والجعفرية وغيرها .
وأتباع هذه المذاهب كلها يؤكدون أنهم في دينهم يرجعون إلى أصلين هما الكتاب والسنة فهم – جميعا – بهذا الاعتبار من أهل السنة أو سنيون أعني أن الصلحاء من جميع هذه المذاهب سينون وأن الفساق من جميع هذه المذاهب مبتدعة وأهل أهـواء ، فالحنفي والإباضي والمالكي والشـافعي والحنبلي والجعفري والزيدي – مثلا – إذا تمسك بالإسلام حسب مذهبه فهو سني وإذا تهاون به في واجباته عملا أو تركا ، قولا أو عقيدة ، فهو مبتدع .
يعني أن البدعة هي الانحراف عن الدين ، والسنة هي الاستمساك به على ما عرفه أي مسلم بدراسته للإسلام .
ومن التحكم المخالف للمنطق والعقل وطبيعة الحياة أن نأتي إلى رجل من الزيدية – مثلا – قد درس الإسلام على مذهبه ، وحافظ عليه محافظة المؤمن التقي الذي يخشى الله بالغيب فنقول له أنت مبتدع ولا يمكن أن تكون من أهل السنة إلا إذا درست مذهب ابن حنبل وعرفت الإسلام على طريقه ، وأعلنت أنك من أتباعه ، ثم نأتي إلى رجل قد غلب عليه شح نفسه واستعبدته أهواؤه ، فترك بعض ما فرض عليه الإسلام ، وارتكب بعض ما نهاه عنه فنقول له أنت من أهل السنة لأنك تتبع مذهب أحمد أو مذهب محمد .
أهل السنة هم الأتقياء الصالحون من أي مذهب كانوا والمبتدعة وأهل الأهواء هم الفسقة الفجرة ولو لبسوا جبة جابر وطيلسان مالك وعمامة أحمد واتخذوا لمظهرهم سمت زيد وجعفر لقد آن لتلك المفاهيم – التي أملاها التطرف في التعصبات – أن تختفي .
وآن للمؤسسات العلمية الإسلامية أن تغير مناهجها ودراساتها ، وآن لمن يهتم بالإسلام والمسلمين في هذا العصر أن ينظر نظرة أخرى يميلها واقع الحياة للأمة المسلمة ضمن الإطار العام لمبادئ الإسلام .
ورغم تقدم العصر ، واتساع أفق الفكر ، وقيام جامعات وكليات بدل المعاهد، وامتزاج العلم اليوم لتيسير وسائل الاتصال ودخول الآراء الفلسفية الغربية – بل بعض النظريات الهدامة – إلى المؤسسات العلمية الإسلامية إلا أن تلك المؤسسات قديمها وحديثها لا تزال تحتفظ بخاصية الاحتكار المذهبي ، ولا تزال أن تخشى أن تذهب عنها نعرتها المذهبية فهي تحرص أن تقرر مذهبا معينا هو المذهب الذي يكون عليه حكام الدولة ، فإن اتسع أفقها قليلا عمدت إلى ما تسميه الدراسات المقارنة فأوعزت إلى بعض الدكاترة بإجراء مقارنات سطحية تظهر للطلاب – في الغالب – صحة مذهب الدولة وقوة براهينه وضعف غيره ، ومع هذه القيود والملاحظات فإن المذاهب التي يسمح لها أن تدخل رحاب المؤسسات العلمية حتى على سبيل المقارنة هي مذاهب محدودة معدودة محظوظة .
ومن المؤسف أن بعض المؤسسات العلمية في بلاد عربية جنحت إلى العلمانية بالنسبة للديانات بينما تبقى المؤسسات الأخرى محتكرة لمذهبية متعصبة ممقوتة ويضيع المسلمون بين جانبي الإفراط والتفريط .
لقد كان المسلمون في صدر الإسلام وليس فيهم سنيون على الجملة ومبتدعة أو أهل أهواء على الجملة وإنما كانوا على قسمين كبيرين مؤمنون ومنافقون فكل من وفى بما عاهد الله عليه والتزم شريعة الإسلام سلوكا وعقيدة وقولا فهو داخل مع المؤمنين وكل من انحرف عن الإسلام عقيدة وقولا أو عملا فهو داخل في المنافقين ما دام يقر بكلمة الشهادة ولم يرتد عن الإسلام .
وهكذا ينبغي للمسلمين اليوم يجب أن تختفي المفاهيم السابقة التي تدخل مذاهب كاملة في الجنة وتحرم منها أتباع مذاهب أُخرى ... ينبغي أن يطلق أهل السنة على جميع المسلمين بمختلف مذاهبهم ما داموا يعترفون بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع ولا تطلق كلمة المبتدع وصاحب الهوى إلا على الفاسق الذي غلبه هواه من أي مذهب كان .
المصدر: الإباضية بين الفرق الإسلامية للشيخ علي يحي معمر