التاريخ الإسلامي كيف نقرؤه؟ 
حوار صريح وساخن مع فضيلة الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري
أجرى الحوار/ فوزي بن يونس بن حديد
منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم مرَّت الأمة الإسلامية بفترات ازدهار وأخرى انحطاط، وفي كل فترة من هذه الفترات، وبعد الخلافة الراشدة تحديدا، شهد العالم الإسلامي نوعا مختلفا من الحكم، وساد نظام الحكم الواحد المستبدِّ الذي قمع معارضيه ونكَّل بهم؛ فانتشر القتل والتشريد والنفي والإقصاء، ونتيجة لذلك فقد اتخذت المعارضة أشكالا وفِرقًا متعدِّدة للتعامل مع السلطة الحاكمة. 
ومن هذه الفرق التي نأت بنفسها وسارت على نهج الكتمان و"القعود" الفرقة الإباضية بقيادة الإمام جابر بن زيد رضي الله عنه، الذي استطاع أن يواصل العمل بذكاء وفطنة عالية في ظلِّ حكم الحجاج المستبدِّ. فما هو التاريخ الإسلامي؟ وكيف نقرؤه في ظلِّ التغيُّرات والتكتُّلات؟
الجواب عن هذا السؤال وغيرها من الأسئلة المهمة والصريحة والساخنة في هذا الحوار الممتع والشائق مع فضيلة الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري، المؤرِّخ والكاتب في الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والملمِّ بأحوال الأمة قديما وحديثا، يكشف لنا بعضا مما خفي عن الناس.
فإلى الحوار:
 
* التاريخ الإسلامي جزء من حضارة الإنسان هل يبدأ منذ أن خُلق آدم عليه السلام أم هو مرتبط ببعثة سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ففيم يتمثل التاريخ الإسلامي حسب رأيكم؟ 
ـ بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، الموضوع الذي تسأل عنه من أدقِّ المواضيع في العلوم الإنسانية، التاريخ - أو التأريخ - من القضايا الشائكة في جميع الحضارات، وطبعا المؤرخون في العالم الإسلامي منذ أن بدؤوا الكتابة يرجعون إلى نشأة الإنسان وإلى آدم عليه السلام، ومنطلقهم في ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قصص للعبرة عن منشأ البشرية، ويتتبعون تاريخ الأنبياء والرسل.
أما بالنسبة للتاريخ الإسلامي فطبعا موضوعيا ينطلق من بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا التاريخ كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الإنسانية والبشرية يمكن أن يقع في الصواب ويمكن أن يقع في الخطأ؛ لذلك في كل زمان الناس يكتبون ويؤرخون، والذين بعدهم يقرؤون، ومن حقهم أن يناقشوا وأن ينتقدوا، وذلك حسب معطيات تطوُّر الفكر الإنساني، وكلُّ عمل الإنسان نسبيٌّ، والإنسان خطَّاء مهما كان في أي ميدان من الميادين.
فالتاريخ الإسلامي هو جزء من الحضارة الإنسانية، وواجب المسلمين في كل زمان ومكان - وخاصة اليوم - أن لا يقبلوا كلَّ ما كُتب على أنه مقدَّس، فالمقدَّس معروف، وهو ما جاء في القرآن الكريم وما جاء في سنة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فذاك لا نقاش فيه، نقبله، ونفهمه، ونتأمل في حكمته، وأما ما أنتجه البشر فهو إنتاج، الحقيقة فيه نسبية. وجدير بنا مع التطوُّر الإنساني والتطوُّر الحضاري أن نتأمل في كل إنتاجنا الفكري.
* المؤرِّخون الذين كتبوا عن التاريخ الإسلامي بكافَّة توجُّهاتهم، المسلمون والمستشرقون والمستغربون هل التزموا حسب رأيكم بالموضوعية والحيادية في تدوينهم للتاريخ الإسلامي؟ 
- الكتابة في التاريخ يصعب أن تكون موضوعية، خاصة أن جُلَّ الذين كتبوا كانوا يكتبون للدولة الحاكمة، وهم مأجورون على ذلك، وحتى إن كانوا غير مأجورين هم عادة ينتمون إلى هذه الدولة الحاكمة، ويتعاطفون معها ويؤيِّدونها، فكتاباتهم يصعب أن تكون حيادية؛ ولهذا لا نقول: إننا نرفض هذا الذي كتب، وإنما واجبنا أن نقرأه مع الاحتراز الكامل دون أن نتحامل، لا لهم ولا عليهم. والطيِّب في هذا هو أن هذه الكتابات تكررت وكتبت في عهد دولة ثم كتبت في عهد دولة أخرى معاكسة لها؛ فتأتيك الأخبار متضاربة ومتناقضة فأنت بفحصك تقرأ، تتبين، وبالمقابلات والمقارنات عساك تصل إلى الحقيقة أو تقترب من الحقيقة، وذلك بأن تتأمل في مدى عقلانية هؤلاء المؤرخين، مدى جانب الهوى في هذه الكتابات، وهذا يتجلى للقارئ الفاحص من أول وهلة وهو يعلم أن المؤرخ يكتب بتيار معيَّن وبفكر معيَّن، وهي في النهاية يوميَّات. فهؤلاء المؤرخون يكتبون حياة الدولة التي يكتبون لها، ولا تهمُّني أموية أو عباسية وما إلى هذا، وإنما هم يتتبعون هذه الأخبار بمنظار واحد من منظار الولاء إذا كان هناك ولاء، فيعني ذلك أنَّ هناك معارضة، فيكون رفعا من قيمة الذين يتولَّونهم وصدًّا ومحاربة للذين يعارضون، والمعارضة في كل زمان يكتب عنها على أنها خارجية، وعلى أنها إرهاب، وعلى أنها معادية، وهذا ضرب من الحرب النفسية وقع فيها ويقع فيها المؤرّخون - كما ذكرتم - بجميع اتجاهاتهم: المسلم والمستشرق والمستغرب، فالمستشرق والمستغرب معروف اتجاههما، المستشرق يحاول أن يقلّل من قيمة الإسلام والمسلمين، والمستغرب يناصره في ذلك، ونحن عايشنا أحداثا ورأينا كيف تكتب عنها الصحافة، فتجد أن الناس يقرؤون من زاوية واحدة فأنت تكون في الحدث ولكن عندما يُنقل هذا الحدث و يُقرأ فتجد أن الناس كتبوا ما يخالف ما رأيته مخالفة تامَّة؛ فلذلك دائما نتأمل في زاوية الذي يقرأ وفي منطلقاته، ونحاول أن نستفيد بقدر الإمكان - كما ذكرتُ - دون أن نتهجَّم، ودون أن نُطري الإطراء الكامل، فالله تعالى علَّمنا - يا أولي الألباب - بأن نُعمل عقولنا. وعندنا مقياس: ما يتماشى والسنن الكونية الإلهية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام نقبله، وما لا يتماشى لا نقبله، وهذا واضح وجدير بالذكر؛ ولهذا الآن الأطروحات في الجامعات التي تحاول أن تَقرأ قراءة موضوعية عن طريق المقارنة خرجت بنتائج مختلفة بالنسبة إلى قضايا التاريخ بصفة عامة، والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة.
* رغم ادعاء بعضهم أنهم ينقلون الأحداث كما هي لماذا تَضمُّ مؤلفاتهم جملة من الإسرائيليات والمهاترات التي يندهش القارئ عندما يريد أن يتصفَّح ويطَّلع على حدث تاريخي مهمٍّ، وخاصة عند حديثهم عن الفتنة التي وقعت في آخر عهد عثمان وبداية عهد علي؟
- الإسرائيليات داء عياء عند المؤرخين المسلمين، هؤلاء الناس حاولوا أن يفهموا بعض الأحداث، واعتمدوا في ذلك على روايات متعددة، ويا ليت الأمر وقف عند كُتُب التاريخ، وإنما نجد أن كُتب التفسير هي أيضا طافحة بهذه الإسرائيليات، وهذا مطبٌّ يمكن أن يُعزى لغفلة المؤرخين المسلمين، ويمكن أن يعزى لكيد الكائدين من اليهود الذين لم يتمكَّنوا من إيقاف الزحف الإسلامي فتحوَّلوا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الكيد.
ومعروف أن القرآن الكريم في قصص الأنبياء يكتفي بالتلميح؛ لأن الغرض القرآني إنما هو دفع الإنسان للاعتبار فلا يذكر الأسماء، ولا يذكر أسماء الأشخاص، ولا يذكر أسماء الأماكن، فانساب المؤرخون والمفسرون من الاستفادة من كتب المتقدمين، ومن بينها كتب بني إسرائيل وتفسيرٌ للتوراة وإضافات وما إلى ذلك، وكأنَّ ذلك كان محبَّذًا عند الناس لأن تكتمل قصة سيدنا نوح عليه السلام، وأن تكتمل قصص بقية الأنبياء، فوضعوا هذه الإضافات على أنها من باب التفسير، ومن باب التعريف، ومن باب ذكر الأسماء، والمؤرخون طبعا انسابوا في هذا غاية الانسياب، فطبعا اليوم تصفية الغث من السمين بالنسبة إلى هذه الأخبار - كما ذكرت - يحتاج إلى أن يقاس بالنصوص القرآنية، وأن يكتفي المسلمون في أخبار المتقدمين بما جاء مقدَّسا لا نقاش فيه، والبقية كلها يجب أن تُنزع من صفحات كتاباتنا المعاصرة، وفعلا الفكر المعاصر الآن تخلَّص من هذه النزعة التي سادت في فترة من فترات مؤرخينا، هذه الفكرة الثاقبة الآن التي ندعو إليها هي أن الإنسان من واجبه في كتابة التاريخ أن لا يعتمد على القصص الخرافية والأسطورية وما إلى ذلك، عقليةٌ تجاوزها الزمن كانت سائدة فعلا لدى هذه الكتابات، وموقفنا منها موقف الحذف التامِّ؛ لأنها لا تزيد في التاريخ شيئا.
وهذه الدسائس الإسرائيلية استمرت أيضا مع التاريخ الإسلامي وأحواله من روايات يُعجب بها المؤرخون، وتوجد في كتاباتهم، فليس من الصعب علينا أن نغربل هذه النصوص من هذه القضايا، وأن نكتفي بسرد الأحداث، والذي يبدو أنه يكون أقرب إلى الواقع، وكما ذكرت، المؤرخون يأخذ بعضهم عن بعض فيناقض بعضهم البعض، وبالمقارنات النقدية والتدقيق في ذلك قد نصل إلى جانب من الحقيقة، أما الوصول إلى الحقيقة كما هي فذلك ليس عملا بشريا، لماذا؟ لأن راوي الأحداث وهو يعيش الحدث، مثلا أنت تعيش اعتصاما أو مظاهرة - كما يقال اليوم - فأنت في الحدث في زاوية واحدة، والحدث يغطي المدينة كلها، فعندما تروي الحدث تروي الحدث من المكان الذي أنت فيه، فأنت صادق في ذلك، أو تأتيك الأخبار عما يقع في بقية الجهات، فروايتك عن الحدث الذي عشته وتعيشه صحيح، أما ما جاءك من أخبار فهو منقول يحتمل الصدق والكذب. وأنت أيضا في مكانك تنظر للحدث ليس من كل الأبعاد؛ لأن قدرتك العقلية والسمعية والبصرية لا تستوعب ذلك، فتنظر من زاوية واحدة وأنت تعيش الحدث فتنقل ما رأيته، ولعل الذي رأيته هو ضرب من التمويه من الذين يسيِّرون هذه المظاهرة، فتروي رواية يناقضك فيها واحد هو معك في نفس الساحة. وأنا أقول دائما لأبنائي الطلبة: آخذ كتابا مثلا وأقول انظروا إلى هذا الكتاب مستطيل فمن ينظر إلى مقدمة الكتاب يعطيك رواية، ومن ينظر إلى قفا الكتاب يعطيك صورة ثانية، ومن ينظر إلى الجهة المستطيلة الدقيقة من الكتاب يعطيك صورة أخرى، فحينئذ الكتاب عندما يُنظر إليه من زوايا يعطيك صورا متعددة والوصف يأتي مختلفا، فعلى القارئ الآن أن يتتبع عديدا من القراءات وعديدا من الروايات عسى أن يقترب من الحقيقة.
* الأشعري والبغدادي وابن حزم وغيرهم ممن كتبوا عن الفرق الإسلامية لم يكونوا مؤرِّخين بقدر ما كانوا حكَّاما يُدخلون من شاؤوا في الإسلام ويخرجون منه من شاؤوا، فهل يعدُّ ذلك من الناحية الموضوعية كتابة أو حديثا عن الفرق الإسلامية؟
ـ من أكبر المشاكل اليوم في حضارتنا الإسلامية كُتَّاب المقالات، فالصراع بين الفرق الذي تُذكيه السياسة والمذاهب أيضا حوَّل واقع المسلمين إلى واقع مرٍّ، وإلى صراع عنيف وصل إلى الصراع الدموي، وشاع في أذهان الناس أو كثير من الناس على الأقل أن كُتُب المقالات ضربٌ من الكتب المقدَّسة، وهؤلاء الكتاب ظلُّوا يتناقلون الأخبار عن بعضهم البعض، فما جاء عند أولهم تجده يتكرر عند آخرهم، وهذا فعلا يجعل القارئ يصاب بدهشة؛ لأن آخر من كَتب في المقالات لا يزال يصدِّق أقولا جاءت تكفِّر فرقا إسلامية، وينقله بحرفيته دون أن يُعمل عقله فيه، على أن هؤلاء الذين كتبوا أنصفوا، وأنا أَكثرُ معايشةً لهؤلاء الكُتَّاب؛ لأني اهتممت كثيرا بالقضايا العقدية من زوايا متعددة، وكتبت عن العقيدة الإباضية في أطروحاتي العلمية، فوجدت أن النظرة يجب أن تدقَّق، وأن كلمة واحدة يمكن أن تقلب المعنى كلَّه، فكُتَّاب المقالات عندما تنتهي من قراءة نصوصهم ستجد أنهم - بشعور أو بدون شعور، ويتحملون مسؤولية ذلك - تجد أنهم ينحازون إلى الفرقة التي يتبنَّونها، ويقيسون من خلالها بقية الفرق، ويرون أن الفرقة الناجية هي فرقتهم، وأن بقية الفرق هالكة؛ ولهذا عندما تقرأ هذه الكتب ستجد أنك إذا قرأت لها من منظومتها ستضع الناس جميعا في الجنة، وإذا قرأت قراءة كل فرقة من الفرق الأخرى ستجد أن الناس جميعا في جهنم، وهذا ليس من الصواب في شيء؛ لأن كل فرقة فيها صالح وطالح، والناجي هو الصالح من جميع الفرق، كما قال شيخنا علي يحيى معمر، الذي كتب في هذا الباب، فعلى هذا الأساس يجب أن نقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يذكر الفرقة الناجية، وقد جاء في روايات متعددة تحتاج إلى نظر وتمحيص، وحاشا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يميز بين أتباعه بدون مقياس إيمانيٍّ ومقياس راسخ مع القرآن الكريم ومع سنة الرسول عليه السلام.
فالذي ندعو إليه الآن أن نقرأ هذه النصوص وأن نقيسها بالقرآن الكريم، وأن نسعى إلى إحسان ظنِّ بعضنا ببعض، سوى بعض المهاترات التي وصلت فعلا إلى تجسيم المولى تبارك وتعالى، أو تشبيهه تشبيها فظيعا بمخلوقاته، فذاك لا يقبله القرآن الكريم ولا تقبله سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. فنصوص المقالات تحتاج إلى نظر ثاقب، وقلَّ من لم ينحز إلى مدرسته ولم يتَّهم المدارس الأخرى ولم يضعها في دائرة مغايرة للتي يضع فيها دائرته. وأنا لا أريد أن أسمِّي مؤرِّخا من مؤرِّخ، ولا كاتب مقال من كتَّاب المقالات، وإنما جملة ما جاء هكذا؛ لأن أول من كتب عن الفرق هو الأشعري حشر هؤلاء الإباضية في زمرة الخوارج، ومن جاء بعده ظل يحشرهم معهم، إلا من المتأخرين ممن وضَعْنَا بين أيديهم نصوص الإباضية وكتاباتهم ففهموا بصعوبة، وكثير منهم أنصف وينصف في كل مكان، وبعضهم يمسك في المجالس العامة ولكن في مجالسه الخاصة لا يزال يتشبث بالرأي القديم.
فنحن نقول: عوض أن نعتمد على نصوص أصحاب المقالات بأنها مقدسة، علينا أن نرجع في دراسة كلِّ فرقة إلى ما كتبه علماؤها بأقلامهم، ونقرأ بتفهُّم ما كتبوا دون انحياز، مع فهم للمنظومة الكاملة بدون مقياسها بمصطلحات المنظومة الأخرى؛ لأنك إذا قرأت المنظومة الأشعرية وقستها بالمنظومة الاعتزالية فإنك ستقع في مطبٍّ، وإنما تقرأ المنظومة كاملة، منظومة أهل العدل والتوحيد، وتحاول أن تفهم أصحابها لماذا اتجهوا في هذا الاتجاه، وأن تقرأ من المدرسة الأشعرية من داخل المنظومة، وأن تقرأ المدرسة الإباضية من داخل المنظومة، وأن تجعل جميعا على قدم المساواة أمام نصٍّ مقدَّس أمام القرآن الكريم، وأمام ما صحَّ عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وبدأ الناس يقولون الآن فكرة: علم الكلام الجديد، وبدأ هذا التوجه ينتصر له عديد من المؤرخين، وما تزال في جذورها الأولى، أقول: أيضا هذا الاتجاه الجديد يجب أن يؤخذ بحذر؛ حتى لا تقع قطيعة بين الكتابات التقليدية وبين الكتابات المعاصرة الجديدة، ونتحول إلى لغة لا ندري مآلها في مستقبل الأيام، هذا خلاصة ما يمكن أن يقال عن كُتَّاب المقالات.
* تعرض الإباضية في كتب هؤلاء المؤرخين إلى التنكيل بهم وزجِّهم في مجموعة ما يسمى بالخوارج دون تثبُّت مما يكتبون، هل تعتقدون أن الدولتين الأموية والعباسية لهما اليد الطولى في تحديد هوية الفرق الإسلامية؟
ـ السياسة وما أدراك ما السياسة! كل معارض يوضع في خانة العداء، والعداء يورِّث التهميش، ووصل إلى الاتهام والقتل، قضية الإباضية قضيةٌ الخلل فيها عبر التاريخ ناتج عن الطرفين: عن الناس عامة وعن الإباضية خاصة، فالإباضية كغيرهم أو أكثر من غيرهم مرُّوا بمحن عديدة، وهذه المحن جعلتهم يستأثرون بمعلومات لأنفسهم؛ لأنها تورِّطهم إذا صرّحوا بها، فكتموا كثيرا من المعلومات عن حقائقهم نتيجة ضغط الحَجَّاج ومن جاء بعده، فهذا الكتمان وهذا التخفِّي وعدم الظهور جعل الناس لا يعرفونهم معرفة جيدة؛ لأن إنتاجهم لما ظهر أدَّى بهم إلى بلاء مبين؛ فنفهم السرَّ في إخفائهم حقيقة أمرهم، والآخرون لأنهم يكتبون من الجانب السياسي، والجانب السياسي الذي يَعتبِر أنَّ هؤلاء أهل ثورة وأنهم ضمن ما أطلقوا عليه كلمة «خوارج»، وهذه الكلمة سلاح حاد أطلقته الدولة الحاكمة الأولى، وهي الدولة الأموية ضد من خالفها في السياسة، ومعروف أنّ المحكِّمة - ولا أقول الخوارج - التي نبع منها الإباضية وقضية التحكيم هذه قضية فيها كلام كثير، والواقع التاريخي أثبت أن وجهة نظر الإباضية كانت واضحة في هذا الباب، وأن هذه الجماعة كانت من أنصار الإمام عليٍّ كرم الله وجهه، بعد ذلك انقلبت الدوائر مع معاوية الذي كان أول من لم يقبل برأي الإمام، وتمسك بولاية الشام حتى يُفَضَّ أمر أخذ الثأر أو التحكيم في شأن دم عثمان، فهذه المشكلة حولت وجهات النظر تحويلا كثيرا، وجعلت الدولة الأموية اعتبرت هؤلاء أصحاب عبد الله بن وهب الراسبي وجماعة النهروان أنهم أعداء واختلط أمر هؤلاء الناس في وجهة النظر بسرعة، فعبد الله بن إباض ومعه الإمام جابر بن زيد والجماعة اختاروا فكرة القعود والاستعداد للمستقبل، وهذا ما لا يفهمه المؤرخون الآخرون إلا بصعوبة، وتركوا تيار نافع بن الأزرق والصفرية، واستقلُّوا بأنفسهم، والدولة لا تميز، بل بالعكس هي تريد أن تضرب الجميع، فحينئذ الإباضية لا يقبلون نسبتهم إلى الخارجية وإنما يقبلون التسمية الحقيقية التي أطلقها أسلافهم الأوائل على أنفسهم، وأطلقها عليهم مخالفوهم لأنهم أهل التحكيم، وأنهم محكِّمة، وما جاء بعد ذلك بأن الخارجي معناه الخروج عن الإسلام أو الخروج عن الإمامة هو أيضا قيس بمقياس الإسلام الصحيح: الخروج عن الإمام العادل في النهاية خروج عن الإسلام وعن سياسة الدولة الإسلامية، وفهم عديد من المؤرخين المعاصرين عندما طالعوا نصوصنا الأولى التي أرّخت من نوع كتاب السير والجوابات وكتابات أبي سفيان محبوب بن الرحيل، فالكتابات الأولى وما جاء بعدها مُحّصت، ومِنْ خير مَن مَحَّص نصوصنا هذه الدكتور عمرو خليفة النامي رحمه الله في كتابه دراسات عن الإباضية، ومهدي طالب هاشم في دراسته عن الحركة الإباضية في مرحلتها الأولى، وهو عراقي غير إباضي، وعوض خليفات، وهو أردني عن الحركة الإباضية، فهذه الكتابات المعاصرة مع ما كتبتُه بنفسي في هذا الباب محَّص هذه القضايا، وحاولنا أن نراعي شعور جميع الاتجاهات حتى لا نقع في مطب سباب وشتم الآخرين، فنحن نعذر المؤرخين الذين كتبوا لأنهم كتبوا دون أن يطَّلعوا على نصوصنا، فلهم الحقُّ بأن يتوارثوا نصوص المؤرخين وكتب الفرق والمقالات، لكن اليوم لا مبرر بأن تجد كتابات ما تزال تكتب في هذا التيار المعادي لهذه الفئة القليلة في العالم الإسلامي المنحصرة في عددها الأكبر في سلطنة عمان، وفي بلاد المغرب في جبل نفوسة في ليبيا، وزوارة، وفي تونس في جزيرة جربة، وفي الجزائر في وادي ميزاب، وفي تنزانيا في شرق إفريقيا في جزيرة زنجبار، مع توسع لعدد من هؤلاء الناس في الأسواق العالمية؛ لأن الإباضية يشتغلون بالتجارة، فهم شتات في جميع أنحاء البلاد التي ينتمي إليها مذهبهم وفي جميع أنحاء العالم، نقول: نحن هذه كُتُبُنا الآن طُبعت بفضل وزارة التراث والثقافة في عمان، وبفضل نشاط إخوتنا في وادي ميزاب ونشاطنا في الجزيرة بقدر الإمكان، فجلُّ النصوص الآن خرجت مع أن هذه النصوص يجب أن تُحقَّق تحقيقا جديدا يفهِّمها الإباضية لغيرهم، وفعلا وجدنا ممن أنصف، والمحافل الآن عامة، والندوات التي تنعقد.
وفي 11 و12 أكتوبر الماضي انعقد ملتقى في جامعة آل البيت سمعنا أناسا طالعوا نصوصنا، ويذكرون الأمر على حقيقته، وهذا يتطلب منا معاشر الإباضية جهدا أكبر، وهو مطلوب أيضا من إخوتنا من عالمنا الإسلامي الذي نرجو له الوحدة والاتحاد، ليجابه التيارات التغريبية والتيارات التشكيكية والتيارات الإلحادية، وما أحوج أمتنا اليوم إلى أن تتحد جميع الفرق والمذاهب لتكون كتلة إسلامية، لا نقول زاحفة، وإنما كتلة إسلامية واعية، تسعى إلى أن تنشر الخير في العالم وأن تبصِّر أهل المادة وأهل الطغيان ليرجعوا إلى التعايش مع العالمين تعايشا حضاريا راقيا، يحترم فيه الغني الفقير، ويحترم فيه الفقير الغني، والعالم الآن منقسم - بوضوح - إلى جماعة في أقصى تيارات الرقي والمادة والأموال، وجماعة أخرى في الحضيض، فيا ليت أهل الحضارة اليوم يتعاونون فيما بينهم ليعيش الناس في أمن وسلام.
* لقد ذكرَتْ كتب تاريخية كبيرة عظيم المآسي والحروب التي وقعت بين المسلمين أنفسهم، وذكَّتها الدولتان الأموية أولا ثم العباسية والتنكيل بالمعارضين وذبحهم وشنقهم والتمثيل بجثثهم، مما يصعب على الإنسان تصديقه لولا تواتر الأخبار عنهم، بم تفسرون ذلك؟ وهل يعد ذلك جزءا من التاريخ الإسلامي؟
ـ إذا كانت الدول المعاصرة اليوم وهي تدَّعي الموضوعيَّة والرقيَّ تفعل الأفاعيل بمخالفيها ومعارضيها، وجوانتنامو شاهد، فما بالك بالعصور السابقة وأصحابها لم يرتقوا في جانب الحضارة هذا الرقي، فصاحب السياسة لا ينتقم من معارضه دون مبررات، فلا بد أن يجعل لنفسه مبررات، وعادةً المبرِّرُ الديني والمخالفةُ في الدين هو أكبر مبرر، فالسُّلَط ومَن حولها من الحاشية الذين ينتفعون، من أهل الإفتاء ومن أهل القول، ومن أهل السياسة من يدفعون بقوة الحديد والنار أصحاب الإفتاء للإفتاء وحتى يجعلوا مبررا لمواقفهم. ومعلوم في السياسة عند المسلمين وغير المسلمين وجدنا أن الدول الإسلامية دول الخلافة والقيادة أنها ارتفعت عن الواقع التاريخي العام، ولكن الواقع هو غير ذلك، فالكرسي وما أدراك ما الكرسي، ونحن نرى في هذه الأيام في البلدان التي ثارت شعوبها كيف أن أصحاب الكراسي التصقوا بهذه الكراسي وما أراد واحد منهم رغم الداء والأعداء أن يخرج من هذا الكرسي ليقتل الناس بالدبابات وبالويل المبين، فما نراه اليوم في الواقع هو صورة قد تمكِّننا من أن نقيس عليه الماضي؛ فالمصلحة، والأنا، وحب الكرسي، والوشايات، والحيل في الانتقام من المخالفين، هو الذي يبرر هذه الدول، لكن أقول: ليس جميع خلفاء الدولتين الأموية والعباسية على نفس الوتيرة، منهم من كان مذبِّحا ومنهم من حاول أن يتخلى عن هذا، وعلى رأس هؤلاء في الدولة الأموية: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي طهَّر الدولة الأموية مما وقعت فيه من مطبات، وأيضا كثير من خلفاء بني العباس، فنحن لا ننظر إلى هذه الخلافات التي ملأت الدنيا في النهاية وهي التي ساست العالم وعرف المسلمون معها ازدهارا ليس من حقنا أن نغمطها؛ لأنها خالفت الإباضية أو خالفت فرقا أخرى، فهي قدَّمت للحضارة الإسلامية منجزات عظيمة يشهد لها القاصي والداني في الناحية النظرية والتنظير للإمامة والدولة والفكر الاقتصادي وما إلى هذا، والواقع في الهندسة المعمارية، والواقع في انتشار الإسلام، فشمس الإسلام سطعت على العالم مع ما لهاتين الخلافتين وغيرهما من الخلافات الإسلامية والإمارات الإسلامية، ولكن كلٌّ منها وقع مع مخالفه في مطبات، فنحاول أن نفهم هؤلاء الناس لماذا وقعوا في هذه المطبات، وكان رجاؤنا أن لا يقعوا وأن ينسجم المسلمون فيما بينهم، ونحن نرى اليوم في عالمنا الإسلامي كيف أن النعرات تطفو أحيانا على السطح وتجعل دولتين جارتين إسلاميتين تتحاربان لعقود من الزمن، نتيجة ضغط عالمي، ونتيجة خلاف أيديولوجي، ونتيجة مصالح، اليوم في القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين، فما نراه اليوم هو ما كان بالأمس، والإنسان هو الإنسان إذا تحول إلى إنسان مصلحي، نرى ما يقع في ليبيا اليوم، ونرى ما يقع في بلداننا الأخرى كيف أن الأمر يقرأ من جهتين، فصاحب السلطة لا يريد أن يخرج منها ومعه أنصار، ويعتبر أنه على حقٍّ، والمعارضة تعتبر أنها على حق، والصدام في الشوارع، والدبابات تدوس البشر، وكلٌّ يقرأ قراءته، والإعلام يورد هذا وذاك، والتاريخ بعد ذلك يغربل، وقد غُربل الأمر في البلاد التونسية وأمسكت طريقها، وقد غربل الأمر في البلاد المصرية وقد أمسكت طريقها، وأيضا غربل الأمر في ليبيا وتوشك أن تأخذ مسيرتها(1)، ونسأل الله أن يبصِّر الحاكم والمحكوم حتى تُحقن الدماء، وحتى يُحافَظ على النفس البشرية في عالمنا الإسلامي الذي نرجو أن يكون عالم ريادة.
* ما تعقيبكم على قول الشيخ علي يحيى معمر أن هاتين الحقبتين الأموية والعباسية ليستا من التاريخ الإسلامي في شيء؟ 
ـ وأسألك من أين لك هذا الكلام؟
* من خلال مؤلفاته عن الفرق الإسلامية وحديثه عن الفرقة الإباضية بين الفرق الإباضية، وأن التاريخ الإسلامي في تلك الفترة مليء بالمآسي والحروب وعدل عن الكتابة فيهما.
ـ على كل هذا موقف نحترم فيه الشيخ علي يحيى معمر، ونحن لا نقف هذا الموقف، فالمرحلة الأموية والمرحلة العباسية جزء من التاريخ أحبَّ من أحبَّ وكره من كره، وكما ذكرت في جواب عن سؤال سابق، هؤلاء الناس قدَّموا للأمة الإسلامية خيرا، ووقعوا في مطبات، فنحن نستفيد من الجانب الحسن ونعتبر من الجانب السيئ.
* برأيكم هل يجب إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد وبطريقة أقرب إلى الموضوعية والحيادية التامة، أم أن الأمر يحتاج إلى غربلة فحسب؟ 
ـ الواقع الآن أن الدراسات الأكاديمية تحاول أن تقرأ ما كُتب من قبلُ قراءةً جديدة، وهذا على مستوى العالم الإسلامي والعالم الغربي، وهذا ليس خاصا بحضارتنا، وإنما كل الكتابات المتقدمة؛ لأنها كُتبت بلغة القوم وبطريقتهم، وما تحوَّل في دراسات العلوم الإنسانية من اكتشاف مناهج وإحداث أنواع كثيرة من القراءات، واجبنا أن نعيد قراءة جميع ما كتب بالنسبة إلى التاريخ وإلى غير التاريخ؛ لأن التطور الحضاري يجعل الإنسان يكتشف من خلال النصوص القديمة ومن خلال توجيهها بقراءات متعددة وبمناهج متعددة يعطينا أشياء جديدة، وينبّهنا إلى أحوال لم يكن الذين سبقونا ينتبهون إليها. وفعلا التقديم المعاصر، والطباعة المعاصرة، والدراسات المعاصرة، أكسبت هذه القضايا التاريخية وجها جديدا، وكما ذكرت: في كل حقبة ولدى جميع الناس في الحضارة الإسلامية جوانب مشرقة وجوانب قاتلة، فنستفيد ونتأسى - كما علَّمنا الإسلام - بالحسن وبالطيب، ونعتبر بما وقع فيه القوم من أخطاء، والقرآن الكريم فعلا عندما قصَّ علينا قصص الأنبياء بيَّن لنا صراعهم مع أقوامهم الذين كانوا رمز الباطل، وكثير من الباطل تعلَّمنا اجتنابه من سيرة فرعون ومن غير فرعون؛ فلذلك الغث والسمين موجود في كل زمان وفي كل حضارات الإنسان؛ لأن الإنسان ليس كاملا، والإنسان كان يقع في أخطاء، أحيانا يتعمد وأحيانا من باب السهو، فقراءتنا دائما عندنا معاشر المسلمين نقيس كل شيء بـ«قال تعالى» وما صح مما قال عليه الصلاة والسلام. 
* هل يكفي ما كتبه الشيخ علي يحيى معمر والشيخ السالمي والشيخ سالم بن يعقوب عن التاريخ الإباضي، أم أن الأمر يحتاج إلى تجنيد المؤرخين الإباضية الجدد لتسخير أقلامهم وتوضيح اللبس الذي وقع فيه من سبقهم؟
- طبعا نحن لسنا من الذين يقولون: «لم يترك السابق للاحق»، فالإنتاج الحضاري مفتوح، بل من واجبنا معاشر الإباضية اليوم أن نقيم أعمالا موسوعية، والحمد لله بدأنا في هذا الخط مع مؤلَّف أوَّل هو معجم أعلام الإباضية، ومؤلَّف ثان هو المصطلح الحضاري عند الإباضية، وطبعا جاءت كتابات من هنا وهنالك، لكن إلى الآن لم تفكر الجماعة بعدُ في موسوعة تاريخية كاملة، فالمحاولات موجودة في المغرب والمشرق، فكتب الدكتور بحاز عن الدولة الرستمية، وهي جانب من الجوانب التاريخية في المغرب، وكتبت أنا عن نظام العزابة، وهو أيضا جانب تاريخي اجتماعي ديني واقعي، وكتب الإخوة العمانيون عن دولهم وعن تطوراتها.
وإن شاء الله من خلال هذا السؤال نحاول مع أهل الاختصاص في هذا الباب من الإباضية ومن غير الإباضية المنصفين الذين نضع بين أيديهم هذه النصوص ونصدر موسوعة أو موسوعات، لأن الموسوعة الواحدة لا تكفي لكتابة تاريخ الإباضية في المشرق والمغرب، نوجهها لتكون بصورة تشمل كل الجوانب الحضارية للحياة الإباضية عبر تطوراتهم وفي جميع أحوالهم، أحوال الازدهار وأحوال الانحطاط؛ لأن الإمامات الإباضية عرفت مراحل ازدهار وأيضا عرفت مراحل صراع وانحطاط، فكل هذا يجب أن يُدرس وأن يُتحقق منه من خلال ما يتوفر لدينا من نصوص، وما نزال إلى اليوم نكتشف مخطوطات كنا نعتبرها مفقودة، وإنما هي كانت مغمورة، وتظهر للوجود يوما بعد يوم، فإخوتنا في وادي ميزاب الآن دخلوا خلال الديار وأخرجوا مكتبات عدة للوجود، والموسوعة المنتظرة هي موسوعة المؤلفات الإباضية عبر الزمان ومؤلفات الذين كتبوا عن الإباضية، نسأل الله تعالى أن ييسر صدورها قريبا، فهي فعلا تيسِّر هذا العمل.
وإن شاء الله نحن قريبا سنعقد ندوة سميناها: «ندوة المخطوطات»، سنحقق مخطوطا عن بلاد المغرب وعن إباضيته من كتابات أبي عمرو عثمان بن خليفة السوفي رحمه الله كتبه في القرن السادس لهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه أخبار طريفة مع استغلال كتب الفقه وكتب العقيدة وكل ما كتب لنقرأها قراءة تاريخية تفيد في معرفة كثير من الأشياء الحضارية التي يتفق فيها المشارقة مع المغاربة، وكثير من القضايا الحضارية جعلت المذهب الإباضي يتأقلم بشكل في المشرق ويتأقلم بشكل آخر في المغرب، كل هذا نحن مطالبون به على الأقل نخطط له في جامعاتنا، في الجامعات الإباضية وغير الإباضية، واستنفار الباحثين في ذلك لاتجاه العمل الموسوعي، ثم بعد ذلك العمل التفصيلي الجزئي، والحمد لله الآن توفرت العديد من النصوص بفضل وزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان وبفضل مجهوداتنا الفردية هنالك في المغرب مما يجعلنا فعلا قادرين على القيام بهذا العمل، وهو تجديد لا بد منه حتى لا يبقى تراثنا راكدا كما بقي راكدا حقبا من الزمن. والشيخ سالم بن يعقوب رحمة الله عليه فضله كبير والشيخ علي يحيى معمر فضله كبير، وكل من كتب قبلنا نحن نستفيد من كتاباته، ونعلم أن نصوصا هي متوفرة لدينا اليوم لم تتوفر لدى الذين تَقدَّمونا.
* برأيكم ما هي الصفات الحقيقية التي يجب أن تتوفر في المؤرخ حتى يكون موضوعيا وحياديا؟
ـ الموسوعة ليست عملا فرديا، فمجموعة من العلماء باتفاق يكوِّنون لجنة علمية، وهذه اللجنة العلمية تضع ضوابط، وهذه الضوابط عادة تُوصل عادة إلى أقرب ما يكون إلى الموضوعية، أما الموضوعية المطلقة فصدِّقني هي وهم، ولا توجد الموضوعية المطلقة إلا في القضايا الإسلامية الأساسية في العلاقة مع المولى تبارك وتعالى، حيث يعلم المسلم أنه حرام عليه أن يكذب أو أن يموِّه. بينما الكتابات في تاريخ الحضارة الإنسانية وفي العلوم الإنسانية لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال أن يتجرد الكاتب من كيانه من ذاته ومن ميولاته، وإنما - كما ذكرت - العلوم العصرية والمناهج العصرية تضبط ضوابط محددة وشروطا يلتزم بها جميع الذين يلتزمون بالكتابة.
ونحن شاركنا في كتابة موسوعات، وكُلِّفنا بالكتابة عن الإباضية حسب شروط واضحة اتفقت عليها اللجنة المهيِّئة لهذه الموسوعة، وهذا طبعا يجعل العمل قريبا من الواقع، مثبتا ما للناس وما على الجماعة الإباضية عبر الزمان وعبر المكان.
ونحن من منطلق إسلامي أعتقد بكل وضوح أن الفكر الإباضي عبر الزمان، وأن الجماعة الإباضية مرت بمراحل ازدهار ومراحل انحطاط، ومراحل الانحطاط وقعت فيها أخطاء - كما ذكرت - كنا نعتبر منها، ومراحل ازدهار وهي التي يقتدى بها، وفعلا خاصة في عالم السياسة وفي عالم الشورى، المحكِّمة والإباضية الذين خرجوا أو وُلدوا من رحم هذا التيار - تيار المحكِّمة - هم أقرب إلى الواقعية وما تحتاج إليه البشرية، وأقرب إلى سيرة الرسول عليه السلام من حيث التمسك بالشورى وعدم الاعتماد على العِرْق، وعدم الاعتماد على النَّسَب، كما هو الشأن بالنسبة للتيارات الإسلامية الأخرى، ونحن نحترمها ولها مبرراتها.
بينما الفكر الإباضي من البداية جعل من شروط الإمام أن يكون متكاملا خَلقا وخُلقا، وأن يكون من أي جنس ومن أي فئة، الأساس أن يكون عدلا، وأن تتوفر فيه جميع الشروط بدون الالتزام بشرط القرشية أو شرط آل البيت، وهذا يتماشى اليوم مع جميع أنواع الحكم الذي ينادي به البشرية، ومازالوا إلى اليوم لم يوفَّقوا، حتى هذه الديمقراطيات في ظاهرها صورة، ولكن في باطنها صراع مرير، وإنفاق كبير، وذمٌّ للطرف الآخر عنيف، فهذا ليس من مسلك المسلمين، فالذي خالفك يمكن أن يخالفك في وجهة نظر لكن ليس من حقك أن تتهجم عليه، وأن تهول من جميع أعماله، وأن تضعه في الحضيض. ونحن نعلم الآن الصراع المرير بين الأحزاب والأموال التي تنفق، والإغراءات التي تُقدَّم، ثم هذه الأغلبية الساحقة ليس بالضرورة أن يكون معها الحقُّ، ولو كان الحقُّ مع الأغلبية لانتهت رسالة التوحيد من زمان؛ لأن أغلب من يعيشون على الأرض ليسوا من رسالات التوحيد في شيء، وإنما الحق عندنا في الإسلام هو أنَّ الحسن ما حسنته الشريعة، والقبيح ما قبَّحته الشريعة، هذه عقيدة نشترك فيها مع أغلب الفرق الإسلامية، سوى أهل العدل والتوحيد الذين انقرضوا الآن من الوجود، والذين قالوا: إن العقل هو الذي يحسِّن، وأن العقل هو الذي يقبِّح، والإباضية رغم تعايشهم مع فكر أهل العدل والتوحيد لكنهم سلكوا المسلك المعتدل، واعتبروا أن حجة الله على الناس إنما هم الرسل والكتب المنزلة، وفي المرحلة الأخيرة منذ أن جاء محمد عليه الصلاة والسلام فهو الحجة على الجميع، وعلى بقية الرسالات السابقة أن تنضمَّ؛ لأنها كلَّها جاء فيها التبشير بالرسول عليه الصلاة والسلام، ودعت في نصوصها الأصلية غير المحرفة إلى اتباع خاتم الأنبياء عليه السلام، إلا أن الناس تكبروا وكابروا، وأبوا إلا أن يضعوه صراعا – كما يقولون- بين الأديان، وهو في الحقيقة فيه صراع بينها وبين دين التوحيد؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاِسْلاَمُ} [سورة آل عمران: 19]، وفيه صراع داخلي بين الرسالات: رسالة سيدنا موسى عليه السلام، وسيدنا عيسى عليه السلام، وفيه أيضا صراع داخلي في المنظومة الإسلامية بين الفرق الإسلامية، خاصة في الجانب العقدي، وهنا مكمن الخلاف والصراع، والصراع ينبغي أن لا يكون صراعا مذهبيا؛ لأن الخلاف بالاتفاق جائز، بل سعة الاختلاف هي التي جعلت الإسلام قادرا على أن يستوعب جميع مشاكل البشر عبر الزمان وعبر المكان، وبالفقه كان الإسلام خالدا؛ لأن القرآن لم يضبط الناس في أحكام محددة وإنما جعل أصولا وثوابت، وجعل أشياء قارَّة، وأطلق الأمر بعد ذلك لاجتهاد المجتهدين، بحيث هذه النصوص محدودة، والقرآن محدود، والسنة النبوية محدودة، والقرآن فصيح وصريح في هذا، مكَّن الناس من الاجتهاد بالنسبة إلى المتحوِّلات وإلى ما لم يرد فيه النصُّ، ونعلم العلاقة الجدلية بين العقل والنص، كيف أن العقل في البداية هو المسيطر على النص إذ لا بد للعقل أن يسيطر على النص حتى يقبل النصَّ، ولم يعتد الناس في الإسلام هكذا، وإنما فكروا في النص، ولما ثبت عندهم أنه معجزة وأن محمدا عليه السلام رسول آمنوا، فتحولوا إلى المرحلة الثانية، حيث إن العقل يصير خاضعا للنص، وعليه أن يقول: سمعنا وأطعنا، خاصة في القضايا التعبدية، حيث إن كثيرا من الأمور غير معقولة المعنى، ولكن على الإنسان كما قال عمر بن الخطاب: «هذا الحجر لا ينفع ولا يضر، ولولا أني رأيت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك»، فالطاعة الكاملة، أما بعد ذلك فتأتي مرحلة أخرى النص يخضع للعقل بالنسبة إلى المتحوِّلات، ومن هنالك يبدأ بالإفتاء في نوازل معينة، ثم هذا الإفتاء يتحول إلى تنظير ويدخل في نطاق المقدَّس، ونحن نرى اليوم أن القضايا المعاصرة من طفل الأنبوب والاستنساخ وما إلى ذلك تكونت لها مجامع علمية، وصدرت الفتاوى صريحة، ودخلت الآن المنظومة الفقهية التقليدية وأكملتها، وما تزال تطالعها كل يوم بل أحيانا كل ساعة أشياء ومكتشفات جديدة، على المسلمين أن ينظروا في شأنها، والمجامع ما تزال مجتهدة والحمد لله رب العالمين.
* هل يبقى التأثير السياسي في كل عصر هو القيد الذي يكبِّل عنق المؤرِّخ فيكتب وفق أهواء الدولة السياسية، أم أن الأمر أبعد من ذلك؟
_ اليوم تحولت الأحوال، من قبلُ ليس هناك مؤسسات حرة، وأما الآن إما أن ينخرط الإنسان في المنظومة السياسية وهو يتحمس لها، إما أنه يؤمن بذلك أو أنه ينتفع من ذلك. ورأينا في المرحلة التي عشناها في بلادنا تونس طائفة من الناس تحمست للزعيم الأول بورقيبة وألَّهوه، وكتبوا في شأنه على أنه القمة في العطاء وما إلى ذلك، وأيضا بالنسبة للرئيس الذي جاء بعده زين العابدين. ولكن إلى جانب هؤلاء هناك فئة أخرى منهم من كتب مباشرة وتجرأ وانتقد زمن الرئيس الأول، وحوكم وصودر ما كتب، وتحمَّل مسؤوليته في ذلك في المعارضة، في إظهار الحقائق، وأيضا بالنسبة للرئيس الموالي، وهكذا في سائر البلدان الإسلامية وفي سائر بلدان العالم، جماعة منخرطة في منظومة سياسية، وجماعة إن استطاعت أن تكتب في زمن وحياة ودولة ذاك الطاغية كتبت، وإن لم تستطع أجَّلت الكتابة إلى ما بعد. فللمؤرخ اليوم أن يختار لنفسه المنهج الذي يريد.
ونعلم أنه صدرت كتابات عدة حول الأوضاع السياسية المنتمية للتيار السياسي، وصدرت كتابات أخرى، والحقيقة أن هذه الكتابات الثانية هي التي تحلو، تُضايَق، تُحاصَر، تُصادَر، تُجمَّع من الأسواق، إلا أن الناس يتهافتون عليها، وفعلا حال سقوط النظام في تونس عديد من الكتابات التي كُتبت دخلت واجهة المكتبات، ودخلت الشبكة العنكبوتية، وأصحابها منهم من تجرأ وأصدرها من قبلُ، ولكنها حوصرت، ومنهم من لم يصدرها وهو يصدرها الآن بصورةِ أنَّ الإنسان عليه أن يستفيد من الكل؛ لأن المعارض يكنس كل شيء، والموالي يطمس كل شيء للطرف الآخر، فبعد ردح من الزمن الجامعات تعتني بهذه القضايا وتكلِّف الطلبة بإنجاز الأطاريح والماجيستير والدكتوراه، وعادة هذه الكتابات الأكاديمية تكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة؛ لأن أصحابها يكتبون من أجل نيل شهادة، ويحاسَبون عليها من لجان تُشكَّل من أساتذة عادة يعارض بعضهم البعض، فبصورة أن طالب الدكتوراه لا يستطيع أن يكتب في اتجاه واحد لأنه يعلم أن لجنة المناقشة سوف يوجد فيها من يعارض الفكرة التي هو يتبناها ومن يحايد ومن يوافق؛ فلذلك نحن نعرف من خلال ذلك الاحتياطات الكاملة التي يتبناها الطالب، ولا يكتب إلا ما هو مقتنع به، وله الحرية الكاملة في ذلك، بشرط أن يكون قادرا على الدفاع عن نظرته، والأطروحة نظرية جديدة وتحليل جديد لم يسبق من قبل، فإذا كان قادرا على المدافعة عن هذه الأطروحة فإنه يبزُّ أساتذته الذين يناقشهم، وهي مناظرات قد تدوم 6 ساعات أو 8 ساعات من الحوار ومن النقاش البناء، والطالب ليس مقهورا في ذلك المجلس، وإنما من حقه ويفسح له المجال كاملا ليرد على مناقشات الأساتذة، وهي لجنة تحكيم، فعلا محكمة، ورئاستها موقرة، وكثيرا ما يقع فيها بعض الصراع الذي يصل إلى العداء، ولكن في النهاية أغلب اللجان تناقش هذه الأطاريح وتحاول أن تصوِّب ما قد لا ينتبه إليه الطالب، طبعا إذا اعترف هو بذلك وقَبِل هذا التصويب، أما ما لم يقبل تصويبه فواجبه أن يدافع عنه دفاعا مستميتا، وأن يزيد من الحجج الارتجالية مباشرة، ولا تخرج الجماعة إلا باقتناع على أن ما في الأطروحة سائغ ويمكن أن ينتشر بين الناس.
* قلتم في حديث سابق: إن السلفية هم إخواننا، ولكننا نجدهم يسعون إلى تشويه التاريخ الإسلامي، وخاصة التاريخ الإباضي بقصد أحيانا وبدون قصد أحيانا أخرى فماذا تقولون؟
_ السلفية وما أدراك ما السلفية، تيار فكري له وجهة نظر يَعتقد أنه هو الأوحد الذي يعتمد على القرآن، وخاصة على السنة، والذين يقودون هذا التيار وصل بأصحابه أن يسموه بأمير المؤمنين، وأن يقبلوا رؤوسه، وهم في النهاية يصلون ويقيمون شعائر الإسلام ويؤمنون بوحدانية الله تعالى، فمن هذا الجانب إنما هم مسلمون، ولا يمكن بأية حال أن نخرجهم من دائرة الإسلام؛ لأنهم في تصورهم أنهم الأولى في الدفاع عن شعائر الإسلام وعن عقيدة الإسلام وعن النواحي العملية الإسلامية، لكن نختلف مع هؤلاء الناس، وحسب تصورنا: فإنهم يحمِّلون النصوص أكثر مما تتحمَّل، ويحاولون أن يجمدوا بهذه النصوص، وأن يقفوا عند ظاهر النص، ورأينا من خلال الممارسات يطبقون هذا في حياتهم، ولكن إذا جاءت تحوُّلات تصدمهم فإنهم يتحوَّلون ويؤوِّلون. فقد وقع في منطقة ما - ولا أريد أن أذكر الأسماء - صراع وصل إلى انقسام الناس في القرية إلى فريقين يوم عيد الفطر، والأصل في أن السنَّة تقول: إن صلاة يوم العيد تصلى في العراء، والسلفيون يقولون بهذا كما يقول به غيرهم، ولما جاء الصراع والجماعة السلفية احتلت الجامع الذي في أصله إباضي، ولما قام الصراع حول صلاة العيد أحيت الجماعة الإباضية السنة وصلَّت في العراء، وكنا ننتظر أن الجماعة السلفية تصلي هي الأخرى في العراء كما هو مقرر في البداية حفاظا على السنة التي ينادون بها، لكن للأحوال، ولكن الخشية من أن يؤخذ منهم الجامع من جديد صلَّوا داخل الجامع، وأثاروا ضجيجا من خلال مكبرات الصوت على الجماعة الأخرى!. فمثل هذا المسلك يثبت أن هؤلاء الناس ليس كما يقولون بأنهم يلتزمون بالظاهر بالسنَّة، وفعلا كنا آنذاك الجماعة المضغوط عليها زمن النظام السابق، ورجعت إلى عدم تطبيق السنة والصلاة في الجامع خرجت إلى الصلاة في العراء، والجماعة التي يُنتظر أن تصلي في العراء دفاعا عن السنة دخلت الجامع.
فهؤلاء الناس كما ذكرت نحن نحترمهم، لكن ندعوهم إلى أن يحترموا غيرهم، لأنهم كما يتصورون أنهم على حق، فإن غيرهم يتصور ويعتقد أنه على حق، وهذا الاكتساح الذي دفعهم لأن يستعملوا جميع وسائل التهديد، ومن بين التهديد الذي شاع بيننا من هؤلاء الناس أنهم يهددون من لا ينتمي إليهم بإحراق بيوتهم، وهذه التهديدات يشيعونها، بل يشيعون أكثر من هذا في حوارهم مع الجن وفي ما يستعملونه من وسائل!. فكل هذا ليس في رأينا من المسلك الإسلامي في شيء.
وواجب علينا معاشر الإباضية ومعاشر المذاهب الأخرى دائما أن نحسن الظن بالناس، فهذا الذي شاع بيننا وانتشر كانتشار النار في الهشيم له أسبابه وعوامله، هم يعرفونها، وما يعرفونه أنه مناف للإسلام عليهم بأنفسهم أن يتخلوا عنه. ونحن معاشر الإباضية جوامعنا لها تاريخها من مئات السنين وندعو إلى أن نحافظ عليها، وليؤسسوا جوامع لأنفسهم، ولا نمانع من الصلاة خلفهم، وإنما أن يحوِّلوا جوامعنا كما يقولون: «نصف إباضي ونصف سلفي» فلا سبيل إلى التعايش بين تصورين متضاربين، واحد يقيم الصلاة بشكل، وواحد يؤذن بشكل، وواحد يخطب بشكل، فلتبق الجوامع الإباضية إباضية وليبنوا لأنفسهم جوامع، وبجوارنا وفي محيطنا ونحن نقبل ذلك. ومنذ زمن ونحن نتعايش مع إخوتنا المالكية غاية التعايش، صحيح أن السلف كان عندهم انغلاق، عند هذا الطرف والطرف الآخر، عند جميع الأطراف، أما اليوم فتجاوزنا هذا الانغلاق، وصرنا نتعايش مع إخوتنا المالكية على أحسن وجوه التعايش؛ فلم لا يتعايش معنا هؤلاء الناس ويؤسسون لأنفسهم ويتركون مساجدنا بأحوالها وتطوراتها، وإن كان لهم ضلع في بنائها وتطويرها فكل النفقات ليست من جيوبهم وإنما هي من جيوب الإباضية، وأحدهم يدَّعي بأنه هو الذي أسس، قلنا: صحيح أنك كنت ضلعا، لكن عندما تحولتَ إلى تيار آخر تصوّرتَ أن الجماعة ستتبعك ولم تتبعك، فاترك الناس أحرارا، سر أنت في حريتك، ولنتعايش إخوة متحابين، ولنجتنب جميع سبل العنف؛ لأنه ليس في مصلحة هذا ولا ذاك، وإنما إذا دخلنا في صدام - ولا قدر الله إذا تحول إلى صدام دموي - فإنه لن يتوقف؛ والرابح ليس السلفية ولا الإباضية ولا المالكية أو غيرها من المذاهب، وإنما الرابح هو العدو الذي يتربص بالمسلمين جميعا، ويريد أن يشوِّه صورة الإسلام.
* هل يمكن أن يسري الاتهام على كلِّ من ينقل الأخبار كالقنوات الفضائية والفيس بوك وغيرها من وسائل الاتصال ونشر الأخبار؟
_ الوسائل العصرية كالوسائل التقليدية، فيها المتحمس وفيها الموضوعي وفيها المعارض؛ ولذلك كل الأخبار التي ترد من قبل البشر يجب أن تغربل، وأن لا يقبلها الإنسان بصورة مباشرة. ومعروف أن الفيس بوك فيه لُعب كثيرة، يأخذون شخصا من الأشخاص بعيدا عن الدعارة والفساد ويجعلونه يرقص مع زوجة رئيس وإلى غير ذلك، فهذه صور تشنيعية ليست من الإسلام في شيء، ودَعَوْنا إلى ذلك، والتزم أبناؤنا الإباضية بهذا، وقلنا لهم: في جميع ردودكم إياكم أن تقعوا في مثل هذه المطبات، لا تشويه لمسلم ولا لغير مسلم. فالموضوعية تقتضي نقل الرواية كما هي وإن غلبوكم بهذا التشنيع، فغلبهم مؤقت، والأساس هو على كل الذين يتولَّون أمر الفيس بوك وأمر المواقع أن يلتزموا بالآداب الإسلامية مع الآخر، الآخر المسلم والآخر غير المسلم، وصحيفة المدينة بينت هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، والقرآن أكد هذا وبيَّنه، ونحن واجبنا من منطلقنا الإسلامي أن نحترم كل من يتعايش معنا؛ لأننا عندنا قواسم مشتركة في الإنسانية، والإنسان مطالب بأن يحترم شعور الآخر ما دام غير قادر على تحويله إلى الإسلام، حتى وإن كان مشركا، فأن نتحدث عن حضارة الهندوس والسيخ وما إلى ذلك من الناس واجبنا أن نقرأها قراءة صحيحة، نقول: إنهم خالفوا الإسلام، وما داموا لا يحاربون الإسلام نستفيد من نظرياتهم ومن تطبيقاتهم ومن أفكارهم، وقد ملأوا الدنيا.
فلذلك نقول لجميع العاملين في هذا الحقل الجديد أن يتقوا الله في ما يكتبون وفي ما يصوِّرون، وهم يعلمون أن الله تعالى يحاسبهم حسب إخلاصهم، يخلصون لعقيدتهم ولتصورهم، ويُظهرون الإسلام في صورته الناصعة، وكل من تهجّم نقول في شأنه: «حسبي الله ونعم الوكيل»، ونعيد الإقناع كرّة أخرى، وبلغة أخرى، وبتصوير آخر، وإن اقتنع الطرف الآخر فأهلا وسهلا، وإن لم يقتنع الآخر بمسلكنا الإباضي فليس لنا أن نفرض على هؤلاء الناس. وكذلك إخوتنا من جميع المذاهب ندعوهم لذلك، بما في ذلك السلفية، أن لا يتحول الأمر إلى عبثيات عجيبة يندى لها الجبين، أن تصدر من إنسان يؤمن أنه محاسَب بين يدي الله تبارك وتعالى ومهما كان الخلاف بيننا لا يجب أن يتحول إلى تشويه. وفعلا اجتهدنا في مناظرات مع هؤلاء الناس أن لا نشوِّه وإن حاولوا إثارتنا في ذلك، واتهمونا بتهم، دافعنا عن أنفسنا بلغة إيمانية راقية، ولم نردَّ الكيل بالكيل أو الكيل كيلين، ونحن قادرون على ذلك؛ لأننا أبناء بيئة واحدة بل نحن أقارب بل نحن عندنا خؤولة بيننا، نعرف أعماق أسرار بعضنا وعيوب بعضنا معرفة جيدة، لكن المسلم ليس عيابا، وإن وقعت الإشارة والتشويه والنبز وما إلى ذلك فإننا - والحمد لله - تماسكنا في مناظرات دامت أكثر من ست ساعات بأن لا نصدر من لساننا كلمة سيئة، وحسبي الله ونعم الوكيل، رغم أن أحدهم يقول: إننا نختلف مع الإباضية في العقيدة 99% فهذا كلام لا يقوله عاقل، وإنما يقوله إنسان يريد أن يشوه الآخر، فنحن لا نرد ولا ننتظر شهادات من الناس، لأن الكفر والإيمان وصحة العقيدة لا يعلمها إلا المولى تبارك وتعالى، ونحن نحمد الله على أن الله لا يحاسبنا على ما قاله علينا الآخرون، وإنما يحاسبنا بنوايانا، و«إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى»، فنحن إن شاء الله نيتنا مخلصة ندافع عن الإسلام في تصورنا وحسب فهمنا، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: 16]، و{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا اِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة: 86]؛ فنحن نجتهد في دائرة فهم كتاب الله تعالى، وفي دائرة فهم سنة الرسول عليه السلام، ونعتمد على المجاز في تفكيرنا، ومدرستنا بدأت بالتأويل مع عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، لنا سندنا ولنا تصورنا، وهذا التصور استمر عبر الزمن، وصمد عبر الزمن، رغم أنه لم تكن له سلطة تؤيده من نهاية القرن الثالث لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب؛ وفي المشرق بقيت سلطة تؤيده واستمر بصورة واضحة جلية في دائرة الإمامات القائمة والسلطنة القائمة اليوم، بينما أهل المغرب اعتمد علماؤنا ومجموعاتنا - على كثرتها أو قلتها - على مجهوداتنا الخاصة؛ وعلى أموالنا التي نتحرى بأن تكون حلالا، وما زلنا ندفع أبناءنا إلى هذا، ونسأل الله تعالى السلامة للجميع والرشد، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا مراشد أمورنا، وأن يوفق المسلمين جميعا حتى يتكتلوا في ما بينهم أمام التكتلات العظيمة، فهذه الدول الأوروبية رغم شتاتها ورغم الاختلافات بينها نرى اليوم أنها تدافع عن واحدة أو اثنتين من الدول وقعتا في السقوط الاقتصادي وعلى أبواب الإفلاس، فإذا كان هؤلاء يتعاونون والولايات المتحدة هي أصلها ولايات متحدة تتعاون فيما بينها فنحن أولى بأن نتعاون وأن نتحد. والناس جميعا يعلمون أن في اتحادنا قوة تضاهي الاتحادات الأخرى والتكتلات الأخرى، بل تستطيع أن تتجاوزها في الخير وفي السعي لصلاح البشرية، لا التفوق في الاستبداد بالبشرية من نوع الفيتو الذي يفسد أمر الناس جميعا بصوت واحد، ومع هذا يقولون: «ديمقراطية» فأين هي الديمقراطية؟ ولن توجد إلا في ما أقره الله تبارك وتعالى في الدعوة إلى التعايش الحسن مع من والاك ومع من لم يوالك ما لم يشن عليك الحرب. 
* إلى أي حدّ يمكن أن تساهم إعادة كتابة التاريخ في لَمِّ شمل المسلمين والتقارب بينهم؟
_ المسلمون لن يجمعهم إلا «قال تعالى» و«قال عليه السلام»، فإذا عادوا إلى الكتاب والتزموا به، وعادوا إلى السنة النبوية الشريفة والتزموا بها، وحاولوا أن يوفّقوا بين قراءاتهم للنص، واجتهدوا في ذلك، فإنهم سيكونون سادة العالم، وما دام المسلمون يقيمون الضجة حول بعضهم البعض، حول خلاف فقهي بسيط، فإنه يصعب أن يتوصلوا إلى التوحُّد، ما بالك إذا كان الأمر يتعلق بقضايا عقدية من مثل خلق القرآن وقدم القرآن فالأمر أدهى وأمرُّ؛ فنحن أحيانا نسمع زوابع في الصحافة لا لشيء إلا لأن هذا خالف في فرع من فروع الطرف الآخر، نقول: أيها المسلمون علينا أن نجتهد ونسعى إلى الرشاد، وأن نسعى بأن نقترب من بعضنا البعض، وأن يعذر بعضنا البعض في ما اختلفنا فيه إذا أردنا أن ترقى أمتنا، وإذا أردنا أن تخرج عنا الدسائس وما يُكاد للمسلمين، هذا لا يخفى على أحد، فقوى العالم بجميع تياراتها ترى أن أخطر ما في الوجود أن يرجع المسلمون إلى إسلامهم؛ ولذلك هم يفجِّرون المجتمعات الإسلامية تفجيرا ويشتِّتونها تشتيتا بكل أنواع الأمر، أحيانا بالمساعدة وهم قادرون على المساعدات، ورأينا ذلك في أحوال تعيشها الأمة اليوم، وأحيانا بالإيعاز، وأحيانا بالإيجار، وأحيانا بكل الوسائل، فهمُّ القوى العالمية أن لا يسود الإسلام، ويا ليت هؤلاء الناس يفهمون أن سيادة الإسلام هي سيادة لهم، لكن أنّى لأبي جهل أن يفهم هذا وهو يقول: «منكم رسول وليس منا رسول فلن تستقيم أبدا»، ومات أبو جهل وهو يحارب الإسلام، والقوى العالمية ستموت وهي تحارب الإسلام، وماتت الشيوعية والاشتراكية من زمان وهي العدوُّ اللدود للدين؛ لأن الدين عندها أفيون الشعوب، فماتت هي وبقي الإسلام، وبقيت الأديان والتيارات الأخرى أيضا، هي كلها بجميع أشكالها رأسمالية قريبة وسطية، فإنها ترى أن هذا التسامح وهذه المحبة وهذا التعايش الذي يدعو إليه الإسلام لا يسمح للإنسان بأن يستبد بالإنسان، وهم يرغبون في استعباد الآخرين، حاربوا الاستعباد الفردي فحوّلوه إلى استعباد الشعوب، وما تزال قوى الشر وقوى الشيطان تدفع بهذا، وبذلك يستمر الصراع بين الحق والباطل، وفتوحات الرسول عليه السلام وغزواته علمتنا: نصرٌ مبين في غزوة بدر، وغلبة في غزوة أحد، ونصر مبين في غزوات أخرى، وغلبة في غزوة حنين، ولكنها تبلورت كلها معا، وعلَّمت المسلمين أن المسلم وإن كان ربَّانيا وإن كان مع القرآن يمكن أن ينتصر فينال أجر النصر، ويمكن أن ينهزم فيُبتلى بذلك فيصبر، ليهيئ العدة لأمر آخر. ومرحلتنا - لحسن حظنا أو لسوء حظنا - نحن مبتلون بوضع منهار، نصارع ونجتهد لأن ترتقي أمتنا، ونهيئ لذلك.
والله الموفق إلى أقوم السبل والسلام عليكم ورحمة الله.
 
______________________________________________________
يمكنكم الاطلاع على صفحتنا في الفيس بوك للتفاعل مع الموضوع وإبداء آرائكم:
 
اسم الكاتب