
يعتقد كثير من الناس أنَّ أشد أنواع الحروب تأثيرا على المجتمعات وأثرها دمارًا وأكبرها من حيث النتائج والتبعات الحرب العسكرية فقط، بينما هناك أنواع من الحروب لا تقلُّ عنها خطورة وأثرًا، مثل الحرب الإعلامية والحرب الاقتصادية.
هذه الأخيرة أضحت أهم سلاح تُشهِره الدول الكبرى في وجه البلدان المستضعَفَة، بعد أن تخلَّت أو بالأحرى قلَّصت من فكرة الاستعمار المباشر، بل أصبحت تهدِّد به بعضها البعض ومن حين لآخر وأقامت الهيئات الرسمية والمنظمات العالمية خصيصا لخدمة هذا الغرض مثل إنشاء ”الغات“ التي تحوَّلت منذ سنوات إلى المنظمة العالمية للتجارة، وكذا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، تماما كما أنشأت الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحماية الشعوب وتوفير الأمن في مختلف بقاع العالم، ولم يتوفر هذا الأمن إلا حيث أرادوا ومتى أرادوا !.
الغريب في هذه الحرب أنَّها قد تكون مستعمرة بين دولتين أو كتلتين كبيرتين، بينما يبدو الصفاء الجو السياسي بينهما، وهذا بالرغم من الترابط الشديد والتقليدي بين السياسة والاقتصاد، ونلاحظ هذه الظاهرة من خلال بعض الأمثلة التي تجسدت ولا تزال هذه الحرب، فالولايات المتحدة الأمريكية فرضت ضرائب جمركية بنسبة 100% على الموارد اليابانية إليها ومنذ سنوات عديدة، حين تمكنت البضاعة اليابانية من مساحات كبرى من السوق الأمريكية خاصة منها السيارات، وبذلك ضربت الولايات المتحدة بقوانين ”الغات“ والمنظمة العالمية للتجارة عرض الحائط، مع أن البلدين أعضاء فيها، بل إنَّ الولايات المتحدة كانت على رأس الداعين إلى إنشائها، مما يبين لنا تفضيل المصالح على المبادئ إذا تعارضا بالنسبة لهؤلاء الكبار.
وهناك أمثلة أخرى نلحظها يوميا، فالحرب لا زالت قائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في قضية دعم المنتجات الزراعية، مع أنَّ بنود اتفاقية المنظمة العالمية للتجارة واضحة واضحة في هذا المجال، كما اشترطت الولايات المتحدة على الصين لقبول انضمامها مؤخرا إلى المنظمة العالمية للتجارة، وبحكم أنَّ الأولى من الرؤوس الكبيرة فيها، وتحت غطاء حماية الملكية الفكرية التي تسعى إليها المنظمة، أن تقوم هذه الأخيرة بإتلاف الأطنان من الأقراص المدمجة والمنتجة إليها بدعوى أنها تحتوي على برامج أمريكية استنسخت بطريقة غير شرعية، وهو ما حدث بالفعل.
ومما يبين أن هذه المنظمات الدولية هي سلاح الأقوياء في وجه الضعفاء، أن القوانين المنظمة العالمية للتجارة استثنت من جميع بنودها ما يتعلق بالسلع الطاقوية كالبترول والغاز، وهذا لتتمكن الدول الكبرى من منع دخولها إلى أسواقها متى أرادت أو تفرض عليها ضرائب جمركية كيفما شاءت، باعتبار أن هذه المواد توفر الجزء الأعظم من مداخيل الدول النامية، بل إن بعض الدول الغنية فرضت بالفعل ضريبة الوقود على هذه السلع ومنذ بضع سنوات بالرغم من حاجتها إليها، مما يدل على أنَّ الاتفاقيات - وإن قطعت جولات عديدة من المفاوضات - أمرٌ دُبِّر بليل.
السؤال لذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا لا تدير البلدان النامية وخاصة منها الإسلامية هذه الحرب لصالحها؟ ولماذا لا تجعلها في خدمة مبادئها القومية وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية؟ وإن لم يكن ذلك بالطرق الرسمية ومن خلال المنظمات التي أجبرت على الانضمام إليها، والتي تتميَّز عادة بسيطرة دول تملك حقَّ ”الفيتو“ ولو بشكل غير رسمي، فليكن ذلك من خلال السلوك الشعبي والتوعية العامة، وليس الأمر من الصعوبة بمكان كما يتصور البعض.
وكما رأينا سابقا فإنَّ هناك أمثلة عديدة من الواقع تثبت ذلك، فإسرائيل تشترط على العرب وفي كلِّ مفاوضات معها رفع المقاطعة العربية لها، وتعني بذلك التعامل الاقتصادي، فالشارع العربي بات يكره كلَّ ما هو إسرائيلي الصنع، تماما كما يكره الإنسان الطاهر أن يمس النجاسة، اللهم إلاَّ شواذ الآفاق وعديمي المروءة، وهو ماجن له جنون إسرائيل ولم تجد له حلا، وبالمقابل لم يستثمر المسؤولون العرب هذه النقطة لصالحهم، لأنه من السهل أن تأمر بفتح الأسواق وبخفض أو حتى إلغاء الضرائب على السلع الإسرائيلية، ولكن من المستحيل أن تجبر الناس على استهلاكها.
وعندما قطع العرب البترول عن الغرب في الحرب أكتوبر 1973، أحدثوا بذلك زلزالا في سوق النفط فارتفعت أسعار إلى ما فوق الأربعين دولارا (وبأسعار ذلك الوقت)، فكان العرب بذلك قد ضربوا عصفورين بحجر واحد، إلحاق الضرر بالغرب وبمصانعه ورفع تكاليف حصوله على هذه المادة الحيوية من جهة، والاغتناء على حسابه بهذه المداخيل من جهة أخرى، ولكن للأسف فالعرب لا يأخذون العبرة من الماضي ويتناسون التاريخ، وكلما لوَّح أحدٌ الآن بفكرة قطع النفط عن الغرب تضامنا مع انتفاضة الأقصى المباركة أو سعيا وراء وقف العدوان على شعب العراق الشقيق، نجد من يعارض الفكرة بشدَّة و بأعذار واهية، وهي أنَّ الغرب قد أخذ العبرة من الماضي هو أيضا، وأخذ احتياطاته كاملة لمواجهة مثل هذا الموقف، والسؤال الذي نفسه الآن هو: إذا كانت مجرَّد إشاعة تهز أسواق النفط، وكان مجرَّد إعلان مسؤول أمريكي بقرب العدوان على العراق جعل الأسعار ترتفع باستمرار، فكيف بتوقف إنتاجه من بلدان عربية تنتج منه الملايين من البراميل يوميا، خاصة إذا وجدت تضامنا من دول إسلامية أخرى كنيجيريا و حتى نامية كفنـزويلا ؟ !!
إنَّ المعارضين لفكرة قطع النفط عن الغرب والحقيقة تقال، أنه لا يهمهم بذلك سوى الحفاظ على مداخيلهم، ولا يرضون بنقصها ولو دولارا واحدا، كما نلحظ دائما في المفاوضات الشاقة لمنظمة أوبك، فكيف بتوقف هذه المداخيل؟! والغريب أنَّ ذلك لا يجب أن يحدث وكأنه من عاشر المستحيلات، ولو كان ذلك على جماجم الفلسطينيين وأشلاء أطفال العراق !!بل إنَّ بلدانا عربية أعلنتها صراحة وقالت باللسان الفصيح إنَّها مستعدة لتعويض النقص الذي سوف يصيب أسواق النفط بعد اندلاع الحرب على العراق.
ودائما في سياق الأمثلة من الواقع ولو أخذنا حالة الجزائر، فإنَّنا نلاحظ أنه ومع انتفاضة الفلسطينية الأخيرة، برزت بعض الأصوات في المجتمع تنادي بمقاطعة السلع الأمريكية (وإن كانت مصنوعة في الجزائر) على أساس أنَّ أمريكا هي حليفة إسرائيل والداعم الأول لها، وفي مقدَّمة هذه السلع ”بيبسي كولا“ و”كوكاكولا“، وهو ما جعل هذه الأخيرة تسارع بعد أيام قليلة إلى إعلان جوائز بملايين الدينارات لمجرد معلومات تتعلق بالمنتخبات الرياضية المتنافسة في كأس العالم الأخيرة بكوريا الجنوبية واليابانية، يجدها الإنسان عند فتح زجاجة هذا المشروب تحت الغطاء، وهذا لتشجيع على استهلاك هذه المشروبات وشرائها بكميات أكبر سعيا وراء الحصول على هذه المعلومات وبالتالي الحصول على هذه الجوائز.
يجب أن نعترف بأنَّ مقاطعة مثل هذه المنتوج الأمريكي الأصل والجزائري الصنع سوف يسبب أضرارًا كبيرة لمنتجي هذه السلعة، وقد يؤدي ذلك إلى تسريح أعداد كبيرة من عمال هذه الشركات، وبالتالي قطع لأرزاق عائلاتهم، وهو شيء مرفوضٌ شرعًا، لذلك يجب التركيز على السلع المستوردة أصلاً من بلدان تُحارِب الإسلام عنوة، أو تتآمر على المسلمين بمساعدة عدوهم، وأرى أنَّ ذلك أضعف الإيمان، وأقل ما يمكن أن يقدمه المسلم دعمًا لإخوانه المظلومين، خاصة وأنه يكاد لا يملك غير هذا السلاح، وفوق هذا كله يجب ألا يستهين بمثل هذا التصرف وألاَّ يقلِّل من جدواه، وقد رأينا أمثلة عديدة من الواقع تثبت مدى فعاليته وتأثيره.
كما تمنينا من علمائنا الأجلاَّء لو أصدروا فتاوى جماعية تحضُّ على مثل هذا التصرف، وإن كانت موجودة فعلا فإنها فتاوى فردية ومتفرِّقة، وبالمناسبة فإنِّنا نسجل بكل تقدير تأييدنا لبعض الإعلانات التي تبثها التلفزة عندنا مثل ذلك الصادر عن كونفدرالية أرباب العمل، والذي يرفع شعار "نشري سلعة بلادي باش نضمن مستقبل أولادي" وهذا الإعلان وإن لم يكن يسير في نفس الاتجاه الذي نتناوله في هذا الموضوع، فهو يُعتبر في رأينا خطوة في طريق التوعية العامَّة، وترشيد السلوك الشعبي نحو ربط الإستهلاك بالمبادئ.. وهذه هي البداية.
مقال للأستاذ: سليمان ناصر
أستاذ بكلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير
جامعة ورقلة