 لماذا القرآن ؟
 لماذا الطفل ؟
 كيف نقرب الطفل من كتاب الله ؟
 تجربتنا المتواصعة في هذا الصدد؟

هل تنتهي مسؤوليتنا مع كتاب الله عند حث أبنائنا على حفظ سوره واستظهارها؟
هل الغاية المثلى من كتاب الله هي الحفظ والاستظهار؟ أم الفهم والاستذكار والتمثل والاعتبار؟

حضرات السادة الأكارم سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته.
قبل كل شيء أحيي تحية تقدير وإجلال هذا الشباب القرآني في مطيافه السامي ،وأحيِّي بصفة خاصة الابن العزيز الأستاذ محمد بن موسى باباعمي، على ما يبذله من نفس ونفيس لإعلاء كلمة الله زاده الله رفعة وسموًّا، وجعل ذلك في ميزان حسناته، ووفَّقه ليكمل مشاريعه الثقافية والعلمية، وأشكره على هذه الدعوة الكريمة.

وأحب أن أوضح منذ البداية بأن حديثي هذا ليس محاضرة بالمعنى الأكاديمي للكلمة بقدر ما هو مداخلة أحببت أن أشارك بها أبنائي و إخواني بعد أن لم أجد عذراً للاعتذار أو مناصًا للفرار.

وسأعرض مداخلتي في العناصر التالية:
 لماذا القرآن ؟
 لماذا الطفل ؟
 كيف نقرب الطفل من كتاب الله ؟
 تجربتنا المتواصعة في هذا الصدد؟

وأبدأ مداخلتي بطرح الأسئلة التالية :
هل تنتهي مسؤوليتنا مع كتاب الله عند حث أبنائنا على حفظ سوره واستظهارها؟
هل الغاية المثلى من كتاب الله هي الحفظ والاستظهار؟ أم الفهم والاستذكار والتمثل والاعتبار؟
لا أعتقد أنه يوجد عاقلٌ أو مُربٍّ واحد لا يقول بأنه مهمة المربين معلمين وآباء تتعدى الحفظ إلى الفهم والعمل بما فيه، ولو قال بهذا قائل لعدَّ ذلك منه تناقضا أساسيا مع ما يدعو إليه القرآن نفسه الذي يقول:{تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}، {حم تنزيل الكتاب من الرحمان الرحيم كتاب فصلت آياته قرآن عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}، {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}

وما دام هذا أمر بديهي أو مما لا يختلف فيه اثنان، فإننا سننتقل إلى أهم عنصر في المداخلة وهو: لماذا هذا الربط بين القرآن والطفل، لماذا التركيز على الطفل؟

أولم يقل الرسول الكريم  «علِّموا أولادكم القرآن فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو»..؟
إنَّ الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى حريص على أن يكون بناء الأساس سليما قوياً منذ الصغر لعلمه وقد علَّمه الله أنَّ الولد يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسَانه.

يقول الدكتور نجيب الكيلاني المتخصص في أدب الطفل المسلم:
«لقد أرسى الإسلام القواعد والأصول لكل مناحي الحياة فكرا وسلوكا وفناً، وتوالت عصور الإسلام الزاهرة، وهي تضع في حساباتها حقوق الطفل في الحياة والمال والرعاية والتعليم، ولم تكن الحضارة الإسلامية لتنهض وتترسَّخ وتؤثر إلا على أيدي الأعلام من رجال العقيدة الذين خاضوا بحار العلم والمعرفة، وأدركو عن يقين أهمية تربية الطفل تربية صحيحة.
الحضارة يصنعها الرجال المؤمنون الأوفياء، وتُنمِّيها وتحرصها العقيدة الصحيحة.

ولا يمكن منطقيا ولا تاريخيا أنْ يعلو شأن أمة أو ترتقي حضارتها إلاَّ إذا تربى أطفالها في مناخ صحيٍّ سليم. ألم نقل بادئ ذي بدءٍ إنَّ قضية الطفولة دائما وأبداً تكتسب الأولوية المطلقة ؟( )
من هنا كان لابدَّ من أن نبحث عن طريقة تحبِّب للطفل القرآن وتُرغِّبه فيه.

ولكي نتوصَّل إلى طريقة سليمة لابدَّ من أن نتعرَّف على الطفل أولاًّ، وعلى عالمه العجيب الغريب.
لابدَّ أن ندرك منذ البداية «أنَّ هذه الفئة تتميز بمستوى عقلي معين، وبإمكانات وقدرات نفسية ووجدانية تختلف عنَّا نحن الكبار، فتجارب الطفولة وخبراتها المحدودة، وآفاقها التخيُّلية واسعة رحبة لا تحدُّها حدود، ولا تحاصرها ضوابط كضوابطنا نحن الكبار.

ووسائلهم في البحث والتفكير والتحليل والاستيعاب ليست كوسائلنا الناضجة التي اكتسبناها بالمران والتجربة الطويلة والثقافات المتنوِّعة.

ولديهم رغبة جامحة في ارتياد المجهول، والانطلاق عبر الآفاق، وتشكيل عالمٍ خاص يختلف كثيرًا عن عالمنا.»
ومعنى ذلك باختصار شديد أن نراعي عوالمهم النفسية، والذهنية، والسلوكية، وأن نتيقَّن أنَّ عوالمهم تختلف اختلافًا بيِّنًا عن عوالمنا. حتى نعاملهم معاملة الرفق والفهم والانسجام، وتلك سنَّة الله في خلقه وهو يراعي تطوُّر البشريَّة. ومن حكمة الله أنَّ الرسالات السماوية سارت هي الأخرى في هذا الطريق قبل أن تصل مرحلة النضج، لأنَّ الأمم نفسها تمرُّ في مراحل تبدأ طفولية ساذجة بسيطة. ثُمَّ تترقى في عوالمها النفسية والسلوكية والذهنية شيئًا فشيئًا حتى تصل مرحلة النضج ثُمَّ الشيخوخة.
وأوَّل ما يُلفت النظر في مكوِّنات عالم الطفولة هو الخيال الواسع الذي لا تحدُّه حدود.

هذا الخيال الذي لا يخضع لمفهوم الزمن والمكان، ولا يسير وفق الممكن وغير الممكن. ومن هنا كان لابدَّ من مراعاة هذا الجانب الهام عند الأطفال.

فالخيال بما فيه من شاعرية واتِّساع هو وسيلة من وسائل الابتعاد لحدٍّ ما عن التحديد والمباشرة البحتة، وهذا يُثري الانفعال والتأثُّر، حتى يُثري التجربة الإبداعية. ومن ثمَّ يمكننا القول: «إنَّ الإيحاء بالقيمة والمعنى من خلال جوٍّ خيالي وشاعريٍّ يجعل الطفل ينفعل بشكلٍ تلقائيٍ ويتمثَّل ما يقال، ويمكننا أن نستخدم تلك الوسيلة الفنيَّة والإبداعية والإيحاء للطفل بما نراه ويراه التربويون والنفسيون والدعاة من قيمٍ ومبادئ سامية ومُثل عليا، لأنَّ الأسلوب غير المباشر يتضمَّن احترامًا لحرِّية الطفل وبعدًا عن القسر الذي يعيق النمو والتفتُّح» .

هذه الحقيقة التي أجمع عليها المربُّون والنفسيون تقودنا إلى طرح سؤال هو امتداد طبيعيٌّ لما سبق وهو التالي:
إذا كان الخيال من أهمِّ مكوِّنات عالم الطفولة، فكيف نستغلُّه في جعله قريبًا من كتاب الله؟
إنَّ الوسيلة التي تتوفر على الخيال من أساليب الكلام المعروفة هي القصَّة أو الحكاية. والقرآن الكريم نفسه يُحلُّ هذا النوع من الأساليب محلاًّ عظيماً، حيث يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا رسوله الكريم: {فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، ويقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}.

لقد احتفى القرآن الكريم بالقصَّة وجعلها باعثًا على التفكُّر والتدبُّر، لأنَّها واقعة حيَّة، صادقة التعبير، قوية التأثير، عظيمة المقصد، تتحرك فيها الشخصية والحدث، ويتجلى فيها الصراع الأبدي الخالد بين الخير والشَّر، وبين الإيمان والكفر، وبين الرذيلة والفضيلة، وبين الإنسان والشيطان.

وإذا كانت القصة تجربة حية مقتطعة من الحياة المتحرِّكة المتفاعلة، فإنَّها تشدُّ الانتباه، وتٌعمل الفكر، وتُحرِّك المشاعر، فيشعر المتلقِّي صغيرًا أم كبيرًا بأنَّه يعيش وسط الحدث، ويتمثَّله ويُعايشه إلى حدٍّ كبير، بل ويتخذ موقفًا بناءً على قناعة استلهمها من التجربة الموجودة في القصَّة. واتِّخاذ المواقف يتبعه سلوكٌ وانعطافات هنا أوهناك، ذلك هو الذي يمكن فهمه فيما ورد من نصوص قرآنية كريمة حول القصَّة بصفة عامَّة» .

إذا كان هذا هو التأثير العظيم الذي يتركه القصص القرآنيُّ في النفوس على اختلاف أعمارها، ومستوياتها الثقافية؛ فالسؤال الذي يطرحه الموقف هو: كيف نستغلُّ القصص القرآنيَّ إذن لتربية الأطفال؟ وما هي الأهداف التي ينبغي توخِّيها عند الكتابة لهم..؟

أولاً: ترسيخ العقيدة:

إنَّ حجَر الأساس في التوازن النفسي للطفل يتمثَّل في العقيدة الراسخة المستقرَّة، وهي الإيمان بالله وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وأنَّ الجنَّة حقٌّ وأنَّ النار حقٌّ، إلى غير ذلك ممَّا هو معروف في كتب التوحيد.

والأمر ليس صعبًا وليس بسيطًا أيضًا، ليس صعبًا كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين والمربِّين، إذ ليس من الضروري أن نقدِّم ذلك للطفل في قوالب تجريدية يصعبُ عليها فهمها، بل نستغلُّ في ذلك القصص القرآني نفسَه، فقصص الأنبياء، وصراعهم ضدَّ الباطل، وما يستتبع مواقفهم العظيمة تلك من صمودٍ وإباء، وصبرٍ وثبات كفيلة بأن تقرِّب النموذج البشري المتحرِّك للطفل، فيعلم من خلال الموقف والحدث والصراع معنى العقيدة والثبات من أجلها.

وليس بسيطًا لأنَّه ينبغي لنا أن نوعز من خلال إعادة السرد بأسلوب مبسَّط يسيرٍ ما نقول من خلاله للطفل: إنَّ قوة العقيدة وسلامتها هي مصدر الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي سبب النجاح والتوفيق والسلامة، إنَّها الغاية من الوجود، وإرضاء الله واكتساب جنَّته.

وترسيخ العقيدة يتبعه بالضرورة التمكين لقيم الحقِّ والخير والجمال والفضيلة والحريَّة... وقصص القرآن الكريم -وهو القصص الحقُّ - يقدِّم لنا في قصصه العظيمة الخالدة نماذج رائعة من كلِّ ذلك، فقصَّة أبينا إبراهيم مع أبيه وقومه وثباته عند الابتلاء والامتحان، وصبره العظيم وهو يُلقَى في النار، ثُمَّ قصَّة موسى مع قومه بني إسرائيل، وقصَّته مع فرعون وغير ذلك من تطوُّرات في حياته تقدِّم أروع النماذج لثبات العقيدة والصمود من أجلها.

وقصَّة سيدنا يوسف في كلِّ مراحلها لا تأتي مجرَّد حوادث، ولكن تحتدم فيها المشاعر الإنسانية بشتى صورها، بضعفها وقوَّتها، كما تتزاحم فيها الأفكار وتتلاقى النماذج البشرية المعبِّرة، وتنبض فيها العبرة والحكمة، ومن ثمَّ نرى أنفسنا ونحن نقرأ الآيات البيِّنات أمام صور صادقة حيَّة مُعبِّرة تحمل كلَّ عناصر الصدق والحيوية والتأثير، كما نرى الفكرة الرئيسية المهيمنة، أو التي تقود الحدث -بالتعبير الأدبي- هي العقيدة أساسًا.

ثانيًا: تشكيل الوجدان المسلم:

يرى غالبية علماء النفس والتربية أنَّ الكثير من عواطف الطفل ومشاعره تتشكَّل في الأعوام الحاسمة الأولى من عُمره بحيث يترسَّخ العديد منها في العام الخامس من عُمره. ويظلُّ الطفل يتلقَّف الخبرات من خلال ما يُصادف في حياته،وعبر حواسه وفكره ووجدانه، حتى يتكوَّن لديه الرصيد الأساسي الذي يؤثِّر في مستقبل حياته.
غير أنَّ الطفل تتنوع أمامه المنابع التي يستقي منها هذه المؤثرات. فهو يسمع القصَّة من جدَّته، وأمِّه، ومربِّيته، ومعلِّمه، بل هو يتتبعها بشغف من خلال القنوات الإعلامية المختلفة، ومن خلالها يلتقط الطفل مواقف وخبرات تشدُّه إليها وتلتقي مع ما عنده من حصيلة سابقة فيحدث بينه وبينها مقارنات أو مفارقات عقلية ووجدانية، وبذلك يتشكَّل وجدانه، وينعكس بالتالي على سلوكه مستقبلاً.

ولو تأمَّلنا في ذلك لعلمنا أنَّ الخطورة تكمن هنا، لأنَّ الإنسان يستطيع أن يبدِّل أفكاره، ويترك فكرة من الأفكار إذا ضعف اقتناعه بها، ويتبنى فكرة جديدة اتَّصفت بقوَّة الإقناع والصدق، لكنَّ التغيير يبدو صعبًا غاية الصعوبة إذا تعلَّق الأمر بالمشاعر والعواطف وإذا كانت بذرته قد زُرعت في هذه المرحلة المبكِّرة.

ونحن نعلم الأثر الفعَّال للقصص بما فيها من قِيم جمالية ومؤثرات وتشويق وجاذبية على تشكيل وجدان الطفل أكثر ممَّا تؤثر في عقله وذهنه. ومن هنا تأتي أهمية الفنون بالنسبة لتشكيل وجدان الطفل، وهو أمرٌ أجمع عليه كبار علماء التربية في عصرنا حين قرَّروا أنَّ هذا النوع من الفنون يؤدِّي دورًا رئيسًا في البناء الروحي والنفسي للطفل.

فإذا أردنا أن نشكِّل وجدان الطفل تشكيلاً إسلاميًّا سليمًا، فيجب أن نعرض للآداب والسلوك والمواقف الإسلامية من خلال القصص المؤثِّر، الذي يعرض البطولات والنماذج الفريدة حيث تتجسد فيه قيم الصدق والتعاون والعدالة وحب الخير تجسيدًا واضحًا. وقصص القرآن والسيرة النبوية وقصص الصحابة والتابعين والسلف الصالح مليئة بحمد [كذا] الله بكلِّ ما أشرنا إليه.
وأحبُّ أن أشير هنا إلى أننا نستطيع أن نجعل منطلقنا القرآن في كلِّ هذه القصص إذا أحسنَّا الربط بطرق فنيَّة، وأساليب بسيطة بين تلك المواقف وبين ما يدعو إليه القرآن الكريم على النحو الذي سنوضِّحه عندما نتحدَّث عن قصص الحيوانات وتأثيرها في الطفل.

لابدَّ أن نستغلَّ عند الطرح ما تتميَّز به القصَّة القرآنية عن سواها بأسلوبها المتميِّز في السرد، وعظمة أدائها المُعجِز. وما تتوخَّاه من إقرار النتيجة أو العبرة صراحة، ذلك ما ينبغي أن نضعه في الاعتبار ونركِّز عليه ونقدِّمه للطفل بأسلوب مشوِّق يتماشى مع مستواه العقلي والنفسي، وهو أمرٌ ترفضه معظم المدارس الغربية المعاصرة فهي لا تحفل بتبيان الهدف أو الغاية من القصَّة إذ تترك ذلك للمتلقِّي يفهمه وحده، أو يستنتج ما شاء طبقًا لقدراته ومزاجه، كنوعٍ من الإثارة والتشويق والإمتاع.
وذلك ما جعل عالِما مثل الشيخ الشعراوي يقول: «إنَّ القصص القرآني قصص متميِّز له قداسته وتفرُّده، وليس مثل القصص الذي نقرأه اليوم، وخيرٌ للنقاد أن يطلقوا كلمة القصص على ما ورد في القرآن الكريم وأحاديث الرسول  وأن يسمُّوا القصص الحديث الخياليات مثلاً أو ما شابه ذلك...» .

هكذا نأخذ بيد الطفل برفق حتى نقف معه على الغاية من القصَّة، والهدف التربوي أو العَقَدي أو السلوكي منها، بل ونتأكَّد بإثارة بعض الأسئلة عمَّا استوعبه، وفهمه وتشرَّبه.

قلنا فيما سبق: إنَّ ملكة التخيُّل عند الطفل ملكة عظيمة قد لا نعرف نحن الكبار أبعادها ولا نتصوَّر آفاقها، فعندما نرى الطفل يحادث الحيوانات والجمادات وينسجم في الحوار معها إنَّما يفعل ذلك من شعور صادقٍ يتصوره ويُحسُّ به، ويعرف مداه حقًّا. ومَن منكم لم يستمتع بحوار بنته الصغيرة مع دميتها..؟ لذا كان من الواجب علينا أن نستغلَّ هذه الملكة استغلالاً لبناء الجانب الخيِّر في الطفل ونُوجِّهه ونُعلِّيَه لتشكيل وجدانه المسلم، وطبعِ سلوكه بطابع إسلامي صحيح.

وقد سبقَنا الكتَّاب الأقدمون في الشرق وفي الغرب إلى استغلال هذه الظاهرة، ولعل مِن أشهر مَن ألَّف في المكتبة العربية في هذا الصدد ابن المقفَّع في كتابه الشهير كليلة ودمنة، وقد تفطَّن الشاعر الفرنسي لامرتين إلى ما في هذه القصص من جاذبية وتأثير فنظمها شعرًا كنَّا نحفظ الكثير منه في المدارس الفرنسية، وجاء أيضًا أحمد شوقي فكتب هذه القصص شعرًا، وقد تطوَّر هذا النوع من القصص على يد كُتَّاب كبار تخصصوا في مكتبة الطفل مثل كامل الكيلاني، وعادل الغضبان، ومحمد سعيد العريان، وغيرهم كثير. ولو ظلَّت الساحة الثقافية لأمثال كامل الكيلاني والعريان وسيد قطب لهان الأمر، ولكن أغلب كتَّاب القصَّة لا ينظرون باهتمام بالغ إلى هذا الجانب الخطير وهما الجانبان: العقدي، والسلوكي الذي كنَّا نركِّز عليه منذ بداية الحديث.

فإنَّنا حين نستعرض هذا الكمَّ الهائل من القصص الذي يملأ السوق نجد أغلبه يتَّصف بالردَّة والرداءة، سواء منه ما أنتج داخل الوطن أو خارجه، وحينما نعلم أنَّ أغلبه ترجمة أو اقتباس من قصص غربي الطابع، علماني الاتجاه، مادي التفكير، ندرك خطورة ما نقدِّمه لأبنائنا دون وعيٍ أو تفكير بل أكاد أقول أو مسؤولية. والعجيب في الأمر أنَّ بعضه نقدِّمُه جوائز في مؤسساتنا التعليمية الإسلامية.

إنَّ دور النشر تعرف مدى حاجة الأطفال إلى هذا النوع من القصص ولكنَّها للأسف الشديد لا تراعي في الأغلب الأعمِّ الأسس العلمية والتربوية والنفسية والعَقَدية؛ لذلك فهي تقدِّم المترجمات التي تتنافى مع عقيدتنا الإسلامية وتنقل عن الغرب أسلوبه في السلوك والعادات والمعاملات، وبالطَّبع فإنَّ هذا التصوُّر لا ينطبق على دور النشر كلِّها، فهناك في بعض البلاد الإسلامية مؤسسات عريقة تقدِّم للأطفال أدبًا يراعي العقيدة والسلوك الإسلامييَّن مراعاة تامَّة.

وإلى جانب دور النشر الخاصَّة والعامَّة نجد الإعلام الرسمي خاصَّة التلفاز والمذياع والصحافة يُقدِّم كوارث يهتزُّ لها الضمير الحيُّ، ويأسى لها القلب المؤمن، لأنَّ حرص الإعلام ينصبُّ غالبًا على التسلية والإثارة والتشويق، يكفي أن نعرف أنَّ مجلَّة (ماجد)، ومسلسل (ماجد) الكروي حقَّق في العالم الرقم القياسي في النشر والتوزيع، ونحن لسنا ضدَّ القيم الفنيَّة، ولكنَّنا نريد - قبل ذلك - مراعاة الجانب الروحي ونريدها أعمالاً تسري فيها دماءٌ إسلامية زكية خالية من السموم والمكروبات، على غرار ما يُنشر في قناة اقرأ مثلاً، وإلاَّ كان الأمر وخيم العاقبة.

لهذه الأسباب كلِّها رأينا من الواجب الأكيد أن نشارك أولئك الرواد في العالم الإسلامي بما منَّ الله به علينا من تجربة متواضعة وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عنوان السلسلة التي بلغت الآن حوالي عشرين قصَّة. «القصص المربي للأطفال»، وقد توجَّهنا بها إلى المستوى المدرسي الأول، ونعني به الطفل في المرحلة الابتدائية أو ما بين السادسة والثانية عشرة. وفي هذه السلسلة حاولنا أن نُؤَسلِم بعض قصص كتاب كليلة ودمنة حسب تعبير أحد الإخوان.

والمهمُّ في هذه التجربة هو الربط الذي توخَّيناه وتعمَّدناه بين هذا النوع من القصص وما جاء من توجيه في القرآن الكريم، فكنَّا نشدُّ انتباه الطفل بالقصَّة المتخيَّلة على لسان الحيوانات، ثُمَّ نربط أحداثها ونتائجها ومدار العقيدة فيها، وبين ما جاء في القرآن الكريم من أمرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكر أو ترسيخ للعقيدة أو تجلية لسلوكٍ كنَّا نفعله، ذلك حتى نقدِّم المجرَّد في قالب مجسَّد، والمعنويَّ في شكل مبنيٍّ ملموس ننزل به إلى مستوى عقل الطفل دون أن نمسَّ مَلكة الخيال فيه ونصدمه بواقع قد لا يسمح له عقله الصغير بتفهُّم الغاية منه.

كنَّا نستغلُّ ما في سلوك هذه الحيوانات من خيرٍ أو من شرٍّ فنرغِّبه في الخير، وننفِّره عن الشرِّ، فالثعلب معروف بالمكر والخديعة، والأسد معروف بالشجاعة والأنفة، والحمامة معروفة بالوداعة الجمال، والحمار بالغباء، والحصان بالإقدام، والكلب بالوفاء، إلى غير ذلك ما هو معروف؛ مُبرزين كلَّ ذلك من خلال حدثٍ ينمو تلقائيًّا إلى لحظة التنوير أو حلِّ العقدة الفنيَّة، وفق المتطلَّبات الفنيَّة لكتابة القصَّة.

أمَّا القسم الثاني: أو هو المستوى الثاني، فعنوانه «سلسلة القصص الحق» أو «القصص القرآني للشباب» وهو موجَّه في الأساس إلى الأطفال والشباب في المرحلة الدراسية، المتوسِّطة والثانوية، أو ما بين الثانية عشرة والثامنة عشرة .

وفي هذه السلسة التي أنتجنا منها اثنتيْ عشرة قصَّة، تعمَّدنا تتبُّع قصص الأنبياء في القرآن الكريم بدءًا من آدم، وأرفقنا هذه التجربة بشريط سمعي يمكن في المستقبل توزيعه مع الكتاب، وقد بدأنا هذه التجربة مع مؤسسة عُمانية.

وقد توخَّينا في تقديم القصص القرآني للشباب أن تكون بأسلوب مبسَّط، راعينا فيه العناصر الفنيَّة للقصَّة كلِّها، وهي: الحدث، والسرد، والبناء، والشخصيات، والفكرة أو الموضوع.

على أنَّنا كنَّا نركِّز دومًا – سواءً كان ذلك في المستوى الأول أو الثاني – على الأهداف التي من أجلها اخترنا هذا النوع من الكتابة للأطفال، ألا وهي:
1. ترسيخ العقيدة الإسلامية.
2. تشكيل الوجدان المسلم.
3. طبع السلوك بطبع إسلامي أصيل.
4. بعث مشاعر الوحدة بين المسلمين.
5. إثراء الحصيلة اللغوية والخبرات الثقافية لدى الطفل أو الشاب.
وبعد:
اسمحوا لي أيُّها السادة أن أختم هذا العرض الموجز بما جاء به أحد الرواد المسلمين في كتابة القصَّة الإسلامية للطفل وهو الأستاذ الدكتور نجيب الكيلاني حيث يقول: «أليس من اللافت للنظر اليوم أن يأتي علماء التربية والنفس بعد قرون طوال من نزول القرآن ليؤكِّدوا هذه الحقائق التالية ألا وهي:

أولاً: القصَّة ذات أثرٍ بالغ في التنشئة والتربية.

ثانيًا: القصَّة الناجحة تزوِّد الطفل بمختلف الخبرات الثقافية والوجدانية والنفسية والسلوكية.

ثالثا: القصَّة تفتح الآفاق أمام الطفل، وتُثري خياله، وتُنمِّي مهاراته وإبداعاته، وتمدُّه بطاقة روحية ونفسية وفكرية كبيرة.

رابعًا: قصة الطفل يجب أن تكون واضحة، منطقية، سلسة، بعيدة عن التشتت، خالية من تراكم العُقد، مفهومة اللفظ والمعنى والسياق.

خامسًا: أن تكون واضحة الهدف.

سادسًا: أن تخلو ممَّا يبعث الخوف والشك واليأس والتردُّد في نفوس الأطفال.

سابعًا: أن تميل بالطفل إلى جانب الخير والفضيلة، والثقة، والإيمان، وأن تؤكِّد على انتصار الخير على الشرِّ، والإيمان على الكفر، والأمل على اليأس.

ثامنًا: أن يستخلص منها الطفل – شعوريًا أو لاشعوريًّا – قيمةً أو فكرة تنفعه في حياته، ويثبت في نفسه الآداب الأخلاقية المنبثقة عن دينه وعقيدته .

نسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرَّة أعين، إنَّه سميعٌ مجيب. والسلام عليكم.



1. أدب الأطفال. ص40.
2. أدب الأطفال. ص13.
3. أدب الأطفال. ص43.
4. أدب الأطفال، ص52.
5. أدب الأطفال. ص77.
6. أدب الأطفال، ص56.
7. ونشكر المطياف القرآني على عنايته بهذا النوع، وبنشره على الإنترنت وترجمته إلى اللغة الإنجليزية.
8. أدب الأطفال، ص54.

القرارة في: 15/07/99

اسم الكاتب