د/ محمد بن قاسم ناصر بوحجام
أستاذ ـ جامعة باتنة ـ
حقيقة التّراث أنّه عصارة فكر الأمّة، ومجموعة عقائدها، ونتاج جهدها العقلي والرّوحي. هو بهذا المفهوم يمثّل ما تركه الأسلاف من مخطوطات وآثار أدبيّة وعلميّة في مختلف جوانب المعرفة، كما يشمل مخلّفات ماديّة؛ متمثّلة في الأبنية، وما شيّد على طراز معيّن، ونمط متميّز، جاء استجابة لظروف خاصّة، وقام ليؤدّي مهمّة معيّنة، تكشف عن نوع تفكير ساد في فترة معيّنة، وتبرز دور هذا الفكر، وهذا العمل في الحرص على المحافظة على الكيان والهيئة، وحمايتهما من الذّوبان والتّلاشي في خضمّ الصّراع الحضاري والتّنازع على البقاء.
التّراث يمثّل المواقف والبطولات والتّاريخ والمبتكرات والإسهامات في مسيرة الفكر، وسيرورة التّاريخ، ويشمل الحِرفَ والصّناعات اليدوية والتّقليدية... التّراث يشكّل عناصر القوّة والوحدة؛ حين يُرتبَط ويُتعلَّق به, إنّه القاعدة الأولى الصلبة والرّئيسة التي يُنْطلق منها لبناء قواعد أخرى في الحياة... وهو أيضًا الأرضية التي تقوم عليها الثّقافة، وبه تتشكّل.
من هنا يعدّ التّراث ركيزة أساسية في بلورة كيان الأمّة، وتحديد هويّتها، وتسجيل خصوصيتها ومميّزاتها. فنحن: «نلتمس في التّراث بعض العون؛ لتأكيد شخصيتنا، ولإثبات وجودنا الحضاري، وتأثيرنا القويّ الممتدّ منذ القديم»(1).
من هذا التّحديد تتبيّن قيمة المنتمين إلى هذا التّراث، ودورهم في المحافظة عليه، والإضافة إليه؛ بما يضمن له الاستمرارية والبقاء. في هذا المعنى يقول «بسكال»: «كلّ نسل لابدّ أن يستفيد أوّلا من الفكر الذي تركه من سبقوه، ثمّ يزيده، إن كان له استعداد لذلك، ولا تستطيع أمّة ما أن تحيد عن هذا القانون». ويقول «جاك بيرك»: «إنّ مستقبل العرب يتمثّل في إحياء الماضي، لأنّ المستقبل في كثير من الحالات هو الماضي أو الحاضر، الذي وقع إحياؤه وعيشه من جديد». ويقول جبرا إبراهيم جبرا: «الماضي لدى المجدّدين جذر ومنبت وجذع، تستمدّ منها اللّغة طاقتها، وتستمدّ منها الإبداعَ عُصارة الدّيمومة، فيصبح كلّ جديد فرعًا آخر في دوحة عظيمة، دون أن يعيد الفرع شكل الفرع الآخر. وهنا سرّ حيوية هذا الجديد». (2)
إنّ هذه النّظرة صحيحة، بخاصّة حين نعلم أنّ تراثنا يتفرّد بمميّزات خاصّة، تحمل عناصر القوّة والغناء والثّراء، وهو ما جعله يصمد في وجه كثير من الهجمات عليه ومحاولات تشويهه، كما أنّه يتميّز بالتّنوّع والشّمولية لمختلف المعارف الإنسانية، وتعدّد مظاهر بروزه، وأنّه مصدر إلهام واستفادة كثير من المفكّرين غير العرب والمسلمين، إنّه سبب ازدهار كثير من الثّقافات، وتطوّر كثير من الحضارات الإنسانية.
لهذه الخصوصيّة ولأهميّة التّراث في بناء صرح الأمّة، والمحافظة على كيانها وشخصيتها، عمد الاستعمار والعدوّ في البلدان التي وجد فيها أو احتلّها، عمد إلى هدم هذه القاعدة الصّلبة ( التّراث ) أو النّيل منها على الأقلّ؛ ليؤسّس هو قواعده، ويفرض وجوده، ويحوّل وجهة أبناء هذا البلد أو ذاك إلى وجهته هو، بعد أن يقطع صلة الأجيال المتعاقبة بماضيهم، وينبشهم من تراثهم، وينشئهم ويصنعهم على عينه.
غير أنّه لم يفلح في هذا المسعى، ولم ينجح النّجاح الذي كان يرجوه، إذ إنّ تميّز تراثنا بالقوّة والأصالة حال دون وصول الاستعمار إلى غاياته، كما كان يخطّط ويرسم, يقول الأستاذ «أنور الجندي»: «إنّ أبرز مقوّمات التّراث أنّه حيّ متّصل بالتّاريخ المطّرد, إنّ جذوره ما تزال عميقة الجذور في التّربة، تنبض بالقوّة في مختلف مجالات اللّغة والتّاريخ والثّقافة والتّشريع والأدب والعقائد والأخلاق... وما تزال هذه الجذور قائمة كالدّعائم والأعمدة الضّخمة، تحمل البناء، وتمتصّ من الثّقافات دون أن تفقد ذاتيتها، وهي تأخذ من الثّقافات وتترك، وتحوّل ما تأخذ إلى كيانها بالهضم والتّمثّل، دون أن تقع في الازدواجية».
نتساءل بعد تقرير هذه الحقيقة عن دور التّراث وعن أهميّته؟
إنّ دور التّراث في المجتمع هو دور المحافظ على الكيان، وتثبيت الهوية، والحامي من التّلاشي والذّوبان، والمحصّن من فقد الجذور وخسارة الأصول، والمتكفّل بحفظ التّوازن النّفسي والاجتماعي، وضمان فرض الوجود؛ لأنّه يساعد على إبعاد الاضطراب النّفسي والتّذبذب والحيرة والقلق من طريق أبناء ذلك الإرث.
كما أنّ للتّراث دورَ فرزِ الأصيل من الدّخيل، والوقوف بثبات على أرض صلبة لاستشفاف المستقبل، والوثوب إليه بكلّ اعتدادٍ وعزّة وكرامة، من دون عقدة الرّضوخ أو الوقوع أسير فكرة تفوّق غيرنا علينا، وكوننا عالة عليه. وهو ما يجنّبنا بنيّات الطّريق، التي تسلم إليها التّبعية والتّقليد والمحاكاة غير الواعية. والتي تحصل في غياب الصّلة والتّواصل مع التّراث أو تغييبه، وتكون في حال التّنكّر له وعدم الاعتراف به وبدوره وأهميّته ومكانته.
التّراث الإسلامي بخاصّة يزرع خلق الوقوف بثبات وتحدٍّ أمام كلّ صور التطّويع والتّليين والتّحييد والتّذليل... لأنّه ببساطة يمثّل مواقف الصّمود والصّلابة، ويعطي دروسًا في طريقة قهر المعتدي، وإفشال كلّ مؤامراته ومناوراته ومناوءَاته، ويقدّم الدّليل على النّجاح في الانقلاب على الظّلم والعدوان، وقلب موازين النّصر المدّعَى والمتبجّحَ به...
بمعنى أوضح: إنّ للتّراث ـ حين يستلهم ويتعلّق به، ويرتبط به ـ دورًا كبيرًا وفاعلاً في بلورة الكفاح الإسلامي القويّ لمنع العدوّ من التّآمر على الهويّة الإسلامية وعلى الثّقافة الإسلامية وعلى الأمّة الإسلامية. لقد تعاقبت على هذه الأمّة ـ وما تزال ـ غزوات بالسّلاح والفكر، فلن يكون المخرج منها والمنقذ سوى هضم فكرها الحقيقي، المتمثّل في تراثها الأصيل.
دور التّراث يكمن ـ أيضًا ـ في الحقيقة التي أكّدها الواقع، وهي: إنّه لم تقم نهضة جادّة في أمّة من الأمم إلاّ سبقتها دعوة ملحّة إلى إحياء الماضي، وبعث التّراث بعثًا صحيحًا، والبناء عليه والإضافة إليه». ...والمستقبل ما هو إلاّ الماضي، مرورًا بالحاضر، والوجودُ الشّخصي هو ثمرة لخبرات الماضي وتجاربه وأحداثه»(3).
من أدواره المهمَّة في المجتمع أنّه الملاذ والمنقذ من الحيرة والتّردّد، والمغيث في وقت الهزائم والنّكبات والضعف؛ لأنّ ما ينطوي عليه التّراث من ثراء وغنى وتنوّع، وما يتضمّنه من قوّة وصلابة وتماسك... هو الكفيل بأن يرجع الثّقة في النّفوس الخائرة، ويبعث الأمل في القلوب المنقبضة، ويعين على حسن التّصرّف في المواقف الحرجة؛ وذلك بمراجعة التّاريخ واستنطاقه واستلهامه في مواقفه وبطولاته، وقراءة سير العظماء والزّعماء.
ما أحوجنا في هذا الزّمن المغبرّ المتغيّر المتردّي، وفي هذا الوقت العصيب المتدنّي، الذي تباينت فيه المواقف، وتضاربت الرّؤى، وتتابعت الهزائم، والذي نعيش فيه أسوأ نتائج التّبعيّة الفكريّة، وأخطر تقليعات التّخلّي عن الأصول، والتّحلّي بأخلاق الغير، ونحيا فيه حياة التّشكيك في مقوّماتنا، والنّيل من هويّتنا... ما أحوجنا إلى الرّجوع إلى التّراث، وتمثّله وتوظيفه في حياتنا اليوميّة، واستلهامه في تصحيح مسارنا الذي يبدو عليه الانحراف عن الجادّة، واستثماره في دفع عجلة حركتنا نحو الإبداع والعمل الحادّ المثمر. لكن من دون الذّوبان فيه، إلى حدّ التّقديس والتّغاضي عمّا ينتقد فيه. فالإخلاص للتّراث يقتضي الوقوف على نتاج الماضين، والإحاطة به: فحصًا وتدقيقًا واستيعابًا ونقدًا... قصد استلهام الجوانب الفاعلة فيه.
يقول عثمان حشلاف عن الشّعراء مثلاً: «ولم يكن اهتمام الشّعراء المحدثين بالتّراث لذاته، أو لأنّ التّراث شيء عظيم فحسب، بل لأنّه الوسيلة الأساسية التي تمكّن الشّاعر في نظرنا من الاستمرار في الإبداع والكتابة، إذ بواسطته يتاح له نقل أحاسيسه الوجدانية، وتجربته الشّعرية دافئة ثرّة إلى الجمهور المتلقّي؛ لِما للتّراث من لغة مشتركة، وقيم متّفق عليها، ورموز وصور عرفت دلالتها الأولى، على نطاق واسع، وبذلك يحدث الشّاعر إثارة ومتعة في الجمهور، وتتمّ له المشاركة في فهم الشّعر وتذوّقه»(4).
هناك حقيقة لابدَّ من الإقرار بها والاعتراف بسلبيتها، يجب أن تصحّح لنستثمر هذا التّراث استثمارًا إيجابيًا، وهي: «حين نتأمّل في واقعنا المعيش، نجده ـ في أغلبه ـ إفرازات لتوجيهات معيّنة، واجتهادات بعض المؤرّخين الذين يفتقدون كثيرًا من الشّروط المطلوبة في كتابة التّاريخ، لذلك نجدهم يقولون ويتقوَّلون، مرتكزين على منطلقات فكريّة معيّنة، وربّما ضيّقة، فيقوّمون بعض المواقف، ويقرّرون بعض الأحكام الخاطئة، فتتناقلها الأجيال قضايا مسلّمة، ويسير في ركابها من يأتي بعدهم من المؤرّخين، فيتأصّل الخطأُ، فتنتج عنه هذه المظاهر المزرية التي نلحظها بين أبناء الأمّة الواحدة.
أغلب هذه الأخطاء التي نرتكبها ناتج عن هاجس الخوف من الوقوف في وجه التّاريخ الذي كتبته أقلام منصفة ومغرضة، محايدة ومأجورة، كُفأة وغير قادرة؛ دون تكليف أنفسنا مهمّة نقد الوقائع والوثائق والنّصوص، وتمحيص الأخبار، وغربلة الأحاديث المنقولة، والقيام بالمقارنة التّاريخية..»(5) فالتّراث الذي سجّل بهذه الطّريقة، ستجني دراسته جناية كبيرة على الأمّة. فلا بدَّ من العمل على معرفة أو حذق طريقة التّعامل مع هذا النّوع من التّراث، إنّها إحدى المشكلات التي تعوق البحث في التّراث ودراسته دراسة موضوعية، واستلهامه استلهامًا جيّدًا أو صحيحًا.
فما هي أهمّ المشاكل الأخرى التي يعاني منها تراثنا؟
أهم المشاكل التي يعاني منها تراثنا هو افتقارُ النّشء إلى تذوّقه، وبرودةُ التّحمّس له، بل وتنكّر بعضهم له، وإهماله من بعض القائمين على الثّقافة في بعض البلدان العربية؛ فنتج عن ذلك جهل الأجيال لهذا التّراث. هذه المشكلة أوجدت مشكلة أخرى، تمثّلت في عدم التّفريق بين ما هو تراث أصيل وما هو إرث دخيل، كما لم يُعَد يفرّق بين ما هو ثقافة وما هو تهريج وتشويه وهذيان وسخافات...
أصبحنا مثلا نشهد بعض التّقليعات في الألبسة والأزياء، فيها العري والتّبرّج والتّفسّخ والتّخنّث... تقدّم للأغرار والسّذّج والبسطاء من النّاس على أنّها مستمدّة من أصالتنا وتراثنا. قس على ذلك أنواع السّلوك والمعاملات البعيدة عن أصالتنا، كما أصبح التّراث ـ أحيانا ـ طعمًا يصطاد به الشّباب ويخدّرون، وصار فرصة ووسيلة لتمرير بعض الأفكار والآراء والأهداف المغرضة الخاصّة النّاشزة الغريبة عن مجتمعاتنا، الهدّامة لقيمنا وتقاليدنا.
من المشاكل أيضًا تسلّط داء الجهوية والطّائفية والمذهبيّة... وهيمنة وباء الإقصاء لتشويه التّراث، الذي ينسب إلى طائفة ما، أو فرقة أو جماعة، وطمس بعضها الآخر...؛ لغرض ضرب تلك الطّائفة أو هذه في العمق، أو تهميشها على الأقلّ. كم كان لهذا الصّنيع من أدوارٍٍٍ ومواقف ووقائع، سبّبت مشاكل، عاقت بروز تراثنا على حقيقته.
من المشاكل أيضًا تحكيم مناهج تغريبية وافدة عليه في التّعريف به، وتقديمه للأجيال، سواء في مجال الأدب والتّاريخ أم في مجالات أخرى.
من المشاكل عدم توفّر الوسائل الكافية والإمكانات المادية المناسبة المساعدة على خدمة هذا التّراث، إلى غير ذلك من المشاكل التي يمكن التّغلّب عليها، إن صدقت نيّاتنا، وتحلّينا بروح التّضحية والعمل الجادّ، وشعرنا بالمسؤولية، وأحسسنا بالأمانة التي نحملها نحو الأجيال القادمة الصّاعدة الواعدة، والتي هي معنا تعيش وتحيا وتدرج.
بالإضافة إلى ضياع الكثير من هذا التّراث لعوامل مختلفة، فإنّ اعتماد أوائل رجال الأمّة الإسلامية، وصنّاع تاريخها، وواضعي تراثها، كان على الرّواية، قبل أن يكون لهم تدوين وتأليف، ممّا أوجد ثغرات وفجوات في هذا التّراث، سبّبَ غموضًا ولبسًا في بعض جوانبه، أعاق إبرازه بطريقة صحيحة سليمة.
فكيف يمكن إبراز هذا التّراث والمحافظة عليه؟
أوّلا: يجب الإيمان به، والاعتراف بقيمته وقوّته، والتّحلّي بروح الحماسة نحوه، والحميمية والهوى والغرام به، ثمّ الحنين إليه، والاستعداد للكشف عنه، والمحافظة عليه، وتوفّر التّعبئة العامّة من كافة أفراد المجتمع وفئاته، من دون استثناء.
ثانيّا: العمل بكلّ جدّية، وبمنهجية محكمة على تعريف الأجيال به تعريفًا صحيحًا، بعيدًا عن التّشويه والمزايدة والتّشنّج والمبالغة في إضفاء نوع من الهالة والقدسيّة عليه، أو على جانب منه، مقابل تزييف جوانب أخرى؛ لأسباب وعوامل، يعرفها من يتعامل مع التّراث، ومن يلتقي مع مواقف في هذا السّبيل.
ثالثًا: التّفريق بين ما هو ثقافة وفكر وإبداع ونشاط إنساني، وما هو بعيد عن كلّ ذلك.ممّا يعدّ فسخًا للثّقافة، ومسخًا للتّراث، ونسخًا للأصالة.
رابعًا: الابتعاد عن الفولكلورية والمهرجانية والتّهريج والعرض الشّكلي في أثناء القيام بتقديم التّراث والتّعريف به.
أمّا طرق إبرازه فهي كثيرة متنوّعة تنوّع المجالات التي يشملها هذا التّراث. المهمّ أن يتمّ الكشف عنه ضمن برامج ومخطّطات مسطّرة، تكون قصيرة المدى وطويلة المدى، تأخذ بعين الاعتبار كلّ جوانب التّراث، يتمّ ذلك ضمن مجهودات جماعية وفردية منسّقة، تتضافر وتتعاون على العمل الحادّ الشّامل، يقول الدّكتور سيّد حامد النّسّاج: «فدارسو التّاريخ والاقتصاد والاجتماع والفقه والعقائد والقانون والنّظريات السّياسية والفلسفية والفنون وغيرها، يستطيعون الإسهام بشكل إيجابي وفعّال في تنفيذ فكرة إحياء التّراث بمعناه العام. نحن في حاجة إلى جهود جماعية متضافرة متّحدة ومتعاونة، حتّى لا تكون نظرتنا إلى التّراث قاصرة على ما يتّصل منه باللّغة، أو بالشّعر، أو بالفقه أو بالاجتماع، ليس غير»(6).
إحياء التّراث أو إبرازه يجب أن لا يغفل المناسبات، ولا يُهمل إشراك المؤسّسات التّربويّة والثّقافيّة والاجتماعيّة في التّعريف به، أو التّعامل معه.
بالنّسبة للمخطوطات، يعمد إلى إحصاء المراكز والمكتبات التي تحتوي على مخطوطات، وفهرستها وإعداد أدلّة لها. العمل نفسه يُقامُ به مع الشّخصيات العلميّة والتّاريخيّة، وذلك بوضع معجم للأعلام؛ للتّعريف بهم وبأعمالهم، وتوفير كلّ ذلك بين أيدي الباحثين والدّارسين. يتمّ هذا بالتّنسيق بين المراكز الثّقافيّة في مختلف البلدان في العالم الإسلامي والعربي(7).
في مجال الحرف التّقليدية وبعض الآثار الماديّة: من أدوات ومخلّفات في الألبسة والأواني...يجب جمعها وصيانتها، والتّعريف بها؛ بوضع بطاقات فنّيّة لها وإيداعها في متاحف؛ صونًا لها، وتسهيلَ الاطّلاع على من أراد التّعرّف على هذا الجانب من التّراثِ. هذا الحفظ يمنحها صفة الشّاهد على التّأريخ، وفضل التّحدّث عن الماضي، وفرصة الدّعوة إلى استلهامه، والمنبّه إلى التّحرّك لمزيد العمل على الإضافة، وتطوير ملكة الإبداع.
في ميدان المأثورات الشّعبيّة: من أناشيد وأمثال وأقوال... يجب النّهوض إلى جمعها، والقيام بأعمال تسهّل فهمها، وإدراك دلالاتها ورموزها، والاستفادة منها، ثمّ وضعها في متناول الأيدي، وبخاصّة أمام الأجيال النّاشئة الصّاعدة الواعدة.
في مجال الآثار الماديّة: من مبانٍ ومساجد وقصور وقلاع وحصون وأبراج وأسوار... يجب إحصاؤها، والتّعريف بها، والحرص على صيانتها، وتشجيع النّاس على زيارتها؛ ليتعرّفوا على تاريخهم وبطولات آبائهم وإبداعاتهم، عساهم يأخذون منها دروسًا وعبرًا.
كما يُشجَّع القيام برحلات جماعية إلى الأماكن التّاريخيّة والمواطن التي سجّلت بطولات وأمجادًا، والتي تتوفّر على آثار؛ لينغرس في النّفوس أنّ ذلك من اهتمامات المُواطن وانشغالاته وواجباته الدّينية والوطنية. كما يُحثّ على القيام بجولات استكشافية، تدخل ضمن البرامج التّربوية والتّعليمية والتّثقيفية والكشفية... ويُسعَى إلى إقامة ندوات ومحاضرات ومعارض دوريّة، تشمل مختلف مجالات التّراث، ويُعمَدُ إلى إجراء مسابقات على كافّة المُستويات، وفي مختلف المناسبات، تدور حول التّراثِ، تكون موجّهةً إلى التّكوين والتّثقيف والتّعرّف على الإنّيّة والذّات والهُوِية؛ بتسخير وسائل إعلامنا لخدمة التّراث، بواسطة الصّحيفة والكتاب والإذاعة والتّلفاز والأنترنت وإحياء الذّكريات... إلى غير ذلك من الوسائل العديدة التي يمكن استغلالها في سبيل إحياء التّراث، واستلهامه في تجديد الصّلة بالماضي، واستشفاف المستقبل، واسترجاع الثّقة بالنّفس، والمعاهدة على النّهوض للعمل بجدّية في مجال الإبداع والإضافة لضمان البقاء والاستمرارية.
بهذه الطّريقة ننفخ في النّاشئة روح الحماسة، التي تزرع روح البطولة فيهم ليواجهوا ويصدّوا كلّ الأخطار التي تمسّ كيانهم وشخصيتهم. يقول الأستاذ عبد العزيز الرّفاعي: «ولست أشكّ أنّ روح البطولة الكامنة في النّفس العربيّة، تحتاج إلى إيقاظ وتعبئة وتحميس. وَلِمَ أذهب بعيدًا؟ وها هي قصص الفدائيّين ملء الأذن والعين، وما على رجال الفكر إلاّ أن يغذّوا مثل هذا الاتّجاه البطولي؛ لتحويل الشّعب العربي في كلّ مكان إلى شعب فدائي، يستسهل الموت لتحقيق عزّته وكرامته واستعادة أرضه»(8). بمعنى أوضح يجب الاهتمام بالتّاريخ وسرد البطولات والمواقف القويّة، وسرد قصص الكفاح والصّراع والمقاومة.
لتحقيق هذا الهدف لابدّ من توثيق الارتباط بالتّراث توثيقًا جيّدًا، بطريقة محكمة وخطّة مدروسة. نقترح فيما يأتي بعض هذه الخطوات والملاحظات:
1 ـ تحبيب نفوس النّشء إليه، وتعويد الأجيال على الاقتراب منه، وتصفّحه والنّظر فيه.
2 ـ إحياء روائع الفكر الإسلامي القديم، وتوفيرها بين أيدي الأبناء والنّابتة. أعني أن تكون نقطة البداية والارتكاز التّعرّف على هذا التّراث.
3 ـ العناية بالتّراث؛ إخراجًا وتحقيقًا، تمحيصًا وتدقيقًا، تصحيحًا ونقدًا ومراجعة، استلهامًا واستثمارًا وتثمينًا...
4 ـ تسخير مختلف وسائل الإعلام والنّشر لخدمته: صحافة وكتابًا، إذاعة وتلفازًا، أندية وجمعيات، محافل واجتماعات، معارض وورشات، وإحياء ذكريات الأعلام...
5 ـ إشراك الجمعيّات المختلفة، وفسح المجال للفئات المتعدّدة في عملية النّشر وخدمة التّراث: البيت، المدرسة، المسجد، النّادي، مراكز التّكوين المختلفة...
6 ـ التّخطيط المحكم لربط الأجيال بتراثها، عن طريق إنشاء مراكز ومؤسّسات تَتَخَصّصُ في المجال، وتتحرّك بمنهجية مدروسة، وخطّة عمل مهيّأة.
7 ـ المواصلة والاستمرارية في العمل، من دون توقّف، ما دامت الحياة في تجدّد وتطوّر.
8 ـ تقويم المسيرة من حين لآخر، لترشيد العمل، ونقد المنجزات.
بالنّسبة للتّراث الفكري الإباضي، فبصفته تراثًا إسلاميًّا وإنسانيًا، تميّز بالثّراء والتّنوّع، ولكون أغلبه ما يزال مخطوطًا...فإنّه في حاجة إلى اهتمام خاصّ، ودراسة متميّزة، بل إلى عناية مركّزة؛ لأنّه غير معروف عند الباحثين والدّارسين بشكل جيّد، وقد شكّل عند بعض بني آدم مصدر قلق وانزعاج، لأنّه قدّم لبعض النّاس بمختلف مستوياتهم وفئاتهم، وفي مختلف العصور بطريقة مشوّهة، اسْتَعْدَتْ عليهم مختلف طبقات المجتمع، وألّبت عليهم كثيرًا من الفرق الإسلاميّة.
لم يجد بعض الدّارسين حرجًا في الاعتماد على هذه المراجع؛ رغم اعترافهم بقصورها في تقديم الحقيقة(9)؛ لذا يحذّرنا الدّكتور عوض محمّد خليفات من التّسليم بكلّ ما جاء في هذه المراجع التي تناولت جماعة الإباضية وتراثها، وبخاصّة ما عرف بكتب أصحاب المقالات؛ لما فيها من مغالطات وتأويلات خاطئة. يقول: «... ويجب أن تستخدم هذه المؤلّفات بحذر شديد لأنّ أصحابها تنقصهم الموضوعيّة، ويعوزهم الحياد عندما يتكلّمون عن فرق مخالفة لمعتقداتهم، ولا تزوّدنا هذه الكتب بمعلومات قيّمة عن نشأة الحركة الإباضية وتنظيماتها السّرّية، وما أوردته هذه المصادر من معلومات لا تمتّ في معظمها للإباضية، ولا علاقة لهم بها»(10).
بالإضافة إلى مشكلة تناول تراث الإباضية بطريقة غير سليمة من بعض الكتّاب غير الإباضية، التي أساءت إليه عن قصد أو غير قصد، فإنّ دراسة الإباضية لتراثهم في حاجة إلى مزيد من الجهد الكبير والممنهج، مع تقديرنا لمن أسهم بفعالية في هذا السّبيل.
من مظاهر النّقص في هذه المبادرات، عدم التّعرّض لكلّ المجالات التي ألّف فيها الإباضية، فاقتصر في كثير من الأحيان على جوانب معيّنة، واجترار التّأليف فيها، إنّ: «اهتمامات كتّابنا ودارسينا بالجوانب الفقهية والعقدية والتّاريخية في التّراث الإباضي شيء بارز ومهمّ ومقبول ومطلوب، وقد أدّت هذه الدّراسات دورها، وأتت أكلها إلى حدّ بعيد. والحاجة إلى تطوير هذه الدّراسات ودفع عجلتها إلى الأمام، بنظرة جديدة في البحث، ومنهجية أكثر فاعلية في التّناول، وخطّة أكثر دقّة وإحكامًا في العرض والتّحليل، الحاجة إلى ذلك أكيدة وملحّة، كما قال العلاّمة مصطفى الزّرقاء، مخاطبًا الشّعب العُماني، في ندوة الفقه الإسلامي سنة 1988م: «نحن نريد أن تخدموا فقهكم، وأن تستعينوا بكلّ من يستطيع أن يخدمكم في هذا الموضوع؛ لأنّه يخدم الشّريعة، ولا يخدم أشخاصكم فقط، نريد أن تنشروا فقهكم، وتنفخوا فيه الرّوح. ولديكم دفائن كثيرة، وكلّها مخطوطات ومطبوعات. لـماذا يا إخواني الكرام! هنا فقهكم مدفون هذا الدّفن ؟ لم يكن يسمع به أحد؟ وعندما بدأ يظهر، أخذ يطبع بدون خدمة؟ ثمّ نحن نريد أن يكون هذا الفقه موضع تطبيق. نحن نريد أن يقنّن نظامكم في هذا البلد من فقهكم»(11).
إن الدّكتور مصطفى الزّرقاء يدعو إلى ضرورة إخراج هذا التّراث؛ ليستفيد منه المسلمون، ويطلب أن يكون له دور عملي بتقنينه وجعله موضع تطبيق في الحياة العمليّة؛ لأنّه زاخر وغنيّ بما يفيد النّاس. وفي الوقت نفسه ينتقد الوجه الذي أُظْهِرَ به ما طبع منه. معنى ذلك: إنّ هذا التّراثَ في حاجة إلى خدمة أكثر منهجيّة وأكثر جديّة.
إنّ الاهتمام بالجوانب المذكورة شيء مهمّ، إلاّ أنهّ: «يجب ألاّ يكون مبالغًا ومفرطًا فيه، إلى درجة تكرار الموضوعات، وتكديس البحوث، واجترار الدّراسات، وإعادة التّأليف، والتّنافس في كتابة المطوّلات، والشّروح والحواشي... على حساب جوانب أخرى، تبرز حقيقة التّراث الإباضي، وحقيقة إسهامه في الفكر الإسلامي بخاصّة، والفكر الإنساني بعامّة، وعلى حساب ما يساعد على مزيد من الكشف عن فحوى هذه المسيرة الطّويلة الثّرية، الضّاربة في أعماق التّاريخ»(12). فالفكر لا يعني ـ فقط ـ الجوانب التي اهتممنا بها، إنّما هو أشمل وأعمّ، هو يتعدّاها إلى كلّ ما أنتجته القريحةُ، وأعطاه العقل. وعلماء الإباضية ومفكّروه أنتجوا أكثر ممّا قمنا بعرضه ودراسته، وأبدعوا في أكثر من مجال، وبحثوا في أكثر من جانب.
فمن يتصفَّح بعض الأدلَّة التي قام بإعدادها بعض الباحثين، وما قدّمته بعض الجمعيّات والمؤسّسات، يقف على ثراء التّراث الإباضي، وفي الوقت نفسه يشعر بالتّقصير في خدمته، وتقديم المساعدة لأبناء الإسلام للإفادة منه. يكفي أن نشير إلى الآتي:
1 ـ ما قام به الشّيخ أبو القاسم البرّادي في إحصاء بعض مؤلّفات الإباضية في بعض تآليفه.
2 ـ الشّيخ عبد الله بن حميد السّالمي، في كتابه «اللّمعة المرضية عن أشعَّة الإباضية».
3 ـ الشّيخ سالم بن حمد الحارثي، في كتابه «العقود الفضية في أصول الإباضية».
4 ـ الدّكتور عمرو خليفة النّامي، في كتابه «دراسات عن الإباضية».
5 ـ الدّكتور عوض محمّد خليفات، في كتابه «نشأة الحركة الإباضية».
6 ـ أعمال جمعيّة التّراث بالقرارة:
أ ـ دليل مخطوطات وادي ميزاب.
ب ـ معجم أعلام الإباضية.
ج ـ معجم مصطلحات الإباضية.. وغيرها.
7 ـ ما قامت به جمعيّة «أبي إسحاق إبراهيم اطفيش لخدمة التّراث» بغرداية من أعمال كثيرة في جمع هذا التّراث من مختلف المناطق في العالم، وتوفيره أمام الباحثين، وإعداد مشروعات للعمل لخدمة هذا التّراث، ومساعدة الباحثين على دراسته...
8 ـ خلفان الحجِّي، في رسالته التي خصَّصها لفهرسة مخطوطات بعض المكتبات في سلطنة عمان، والتّعليق على محتوياتها.
9 ـ ما قامت به وزارة التّراث والثّقافة العُمانية. وبعض الدّارسين في سلطنة عُمان.
وغيرها من الأعمال الفردية والجماعية التي تبرز غنى هذا التّراث وتنوّعه، وشموليته لكثير من جوانب المعرفة وما أنتجه هذا الفكر...
إذن يجب ألاّ تبقى الدّراسات التي تتناول حقيقة التّراث الإباضي محصورة في جوانب محدودة، وإلاّ عدّ هذا التّراث أو الفكر قاصرًا عن تأسيس حضارة، وعاجزًا عن مواكبة التّطوّر، ومن ثمّ يفشل في الصّمود، والاستمرار. مع أنّ الحقيقة التي لا مِراء فيها أنّه بقي خالدًا وثابتًا وصامدًا وفاعلا في مختلف مراحل حياة المسلمين، ومؤثّرًا في الحركة الفكرية الإسلاميّة.
إنَّ العمل على إبراز التّراث الإباضي، ودراسته دراسة علميّة موضوعية، ما يزال كبيرًا. يقول الدّكتور عمر با: «... وعلى كلّ فإنّ قضيّة الوجود الإباضي في أرجاء العالم الإسلامي بصفة عامّة، ودورهم في بناء وتشييد الحضارة الإسلامية، وإثراء الفكر الإسلامي، أعتقد أنّه ما زال بعيدًا أن يكون قد نال حظّه الوافر من الاهتمام من قبل الباحثين والدّارسين بصورة علمية، نائية عن الاعتبارات المذهبية، والنّزعات الطّائفية»(13).
بناء على هذه الملاحظات نقدّم فيما يأتي بعض المقترحات في طريقة التّعامل مع الفكر الإباضي، أو دراسة التّراث الإباضي:
1 ـ العمل على توثيق الارتباط بهذا التّراث، وإيجاد سبل الاهتمام به وتذوّقه. لذا يجب الحرص على جذب النّفوس لقراءة كتب المذهب الإباضي. وتوفير عوامل فسح المجال لورود المذهب أو آرائه في المؤلّفات العامّة.
2 ـ ملء الثّغرات الموجودة في التّراث الإباضي، وبخاصّة في الجانب التّاريخي منه.
3 ـ دراسة كيفية تقديم المذهب لأبنائه بطريقة منهجيّة، تضع في الحسبان التّطوّرات الحاصلة في العالم، والتّغيّرات التي شهدتها العلاقات الدّولية، ومناهج التّفكير التي ما تزال في تطوّر، والتّوجّهات والنّظرات التي أفرزتها الأحداث المتسارعة. كما يجب مراعاة تقديم هذا التّراث بطريقة تهتمّ بالمنهج أكثر من التّركيز على المعلومة والتّاريخ.
4 ـ الرّجوع في مواقف الإباضية وسلوكهم وتحرّكاتهم وتنظيماتهم... الرّجوع في هذا إلى أصولهم في العقيدة والاجتماع والسّياسة؛ لمعرفة ما يملكون من فكر، ثمّ لفهم حقيقة ما يتبنّونه؛ لأنّ غياب هذا العنصر في بعض الدّراسات أوقع الدّارسين في كثير من الأخطاء، والالتباس والأوهام، أضرّت بالتّراث الإباضي كثيرًا(14).
5 ـ الحرص على الوقوف أو اكتشاف الخطّ الفكري الذي ينتظم مسيرة الفكر الإباضي، من زعيم الشّراة أبي بلال مرداس بن حدير، مرورًا بجابر بن زيد مؤسّس المذهب، وعبد الله بن إباض الزّعيم السّياسي، إلى أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، منظّم حركة الدّعوة عند الإباضية... ثمّ إلى ما بعد ذلك عبر مراحل مسيرة الدّعوة الإباضية إلى اليوم. فإنّ هذه المعرفة تساعد على فهم حقيقة هذا المذهب، ورصد التّطوّر الذي حصل له في المراحل المختلفة، ولفهم كثير من المواقف الآنية بخاصّة في هذا المنحى، يقول الدّكتور يوسف جعفر سعادة: «... فالأحداث الرّاهنة هي نتيجة لأحداث وظروف ولّت وانتهت، وما لم نفهم الموقف أو الأساس الذي قام عليه الموقف الحاضر فإنّ الوضع المعاصر يصبح سرًّا مغلقًا»(15).
6 ـ العمل على الإضافة إلى هذا التّراث، وإغنائه وإنمائه بالرّوافد الجديدة، من الفكر الإنساني؛ حتّى يساير التّطوّر، ويواكب التّغيير، ويلاحق النّهوض, فإنّ هذا هو الذي يبعد عنه الجمودَ، وينأَى به عن الانفصال عن الفكر العالمي، والانقطاع عن الواقع، فلا يبقى محبوسًا في زاوية الدّراسة لأثر مضى، أو قراءة لتراث أمّة أثرية. لا يصلح ما تركته إلاّ أن يحتلّ مكانًا في متحف، أو موضعًا في مزار. يقول الأستاذ عثمان حشلاف عن الشّاعر المبدع، وعلاقته بالتّراث، وطريقة تعامله معه (والأمر ينطبق على كلّ من يستلهم التّراث ويتعامل معه): «لكنّ الاقتصار على التّراث القومي وحده في عملية الإبداع، لا يغني عن التّراث الإنساني، مهما كان منهج الشّاعر في الإفادة من موروثه، ومهما كانت طاقته الإبداعية. بل لابدّ من أن يمتدّ خياله إلى ما عند الآخرين، ويتّخذَ من ثقافته الواسعة للتّراث الإنساني كلّه مصدرًا يستمدّ منه ما يراه ضروريًّا لإكمال النّقص الذي يشعر به في تراث أمّته. فعلاقة الشّاعر بالتّراث الإنساني علاقة إثراء لتراثه، وإغناء لشخصية قومه، بإضافة تجربة إنسانية جديدة، سبق إليها شعب آخر من شعوب العالم المتحضّر، يتمثّلها الشّاعر تمثّلاً فنّيًا نقديًا، فيسقط منها ما لا يتلاءمُ والتّكوين الفكري والنّفسي والحضاري لأمّته، أو يطبعها بطابعه الخاصّ، ويكسبها من نفسه وتراثه أصالةً ومرونة، وتصبح تجربة جديدة في جسم التّراث القومي، وجزءًا أصيلاً منه»(16).
7 ـ التّخطيط لتزويد المراكز العالمية، والمؤسّسات الثّقافية بهذا التّراث، والتّنسيق بينها وبين مراكز الوجود الإباضي في العالم.
8 ـ البحث عن الوسائل الكفيلة بتصحيح المفهومات الخاطئة عن المذهب الإباضي.
9 ـ إعادة غربلة الكتب التي كتبت عن التّراث الإباضي وأصوله ومواقفه، وبخاصّة التي كتبها غير أبنائه المنتسبين إليه، وتمحيص التّأويلات التي قدّمت لبعض المواقف، والتّفسيرات التي أخذت من بعض الأصول، والإضافات التي سجّلت لبعض الثغرات في التّطوّر التّاريخي، والتّحليل الذي أعطي لبعض المصطلحات، وبعض النّتائج التي تُوُصِّلَ إليها...فإنّ هذه الأخطاء التي ارتكبت في هذه الحقول المعرفيّة، أو في هذه الجوانب أورثت أو أفرزت نتائج خاطئة وخطيرة على مسيرة الفكر اٍلإسلامي.
10 ـ ربط الصّلات بين الجهات المختلفة، التي يوجد فيها الإباضية، لتنسيق الجهود في العمل على إبراز تراثهم وخدمته(17). ثمّ بين هذه الجهات والجهات الأخرى العالميّة، لربط الفكر الإباضي بالفكر اٍلإسلامي، ثمّ الإنساني.
11 ـ الرّبط بين التّراث القومي والإنساني، المذهبي والإسلامي، الخاصّ والعام ...
هذه مجموعة من الأفكار، عرضناها للمناقشة والإثراء؛ إسهامًا منّا في إخراج التّراث الإسلامي إخراجًا، يرقى إلى مستوى مكانته السّامية بين أنواع التّراث الإنساني. كما وقفنا في هذه الملاحظات عند بعض الخصوصيات التي تميّز التّراث الإباضي، من حيث مضمونه، والطّريقة التي تُنووِل بها، وما ينقصه من ناحية التّعريف به، والأخطاء التي ارتكبت في حقّه، والتّقصير الذي سجّل على المنتمين إليه في فهمه، وطريقة التّعامل معه، ومنهجية تقديمه لأبناء الإسلام؛ بصفته نتاجًا إسلاميًّا، من حقّ المسلمين أن يعرفوه، بل من واجبهم أن يتعرّفوا عليه، ويوجدوا له مكانه في الدّراسات العامّة، ليتمّ التّعارف بين أبناء الأمّة الإسلامية؛ حين يخدم كلّ التّراث الإسلامي، من دون تمييز أو إقصاء، وتهميش أو تغييب...هذه وجهة نظرنا المقترحة في كيفية التّعامل مع التّراث، فإلى ملاحظات القرّاء الكرام ونقدهم وإضافاتهم، نحن ننتظر منهم هذا الإكرام ونترقّب، ففي صدرنا لذلك مكان أرحب، ونتيجة هذا العمل كبير مغنم ومكسب.
--------------------
قائمة المراجع
1- سيّد حامد النّسّاج، رحلة التّراث العربي، ط3، دار المعارف، القاهرة، سنة 1987م.
2- عثمان حشلاف، التّراث والتّجديد في شعر السّيّاب، ديوان المطبوعات الجامعيّة، الجزائر، 1986م.
3- عبد العزيز الرّفاعي، توثيق الارتباط بالتّراث العربي، ط4، مطابع البلوي، جدّة، ربيع الأوّل 1393هـ.
4- عوض محمد خليفات، نشأة الحركة الإباضية، عمّان، الأردن، 1978م.
5- مصطفى حلمي، الخوارج، الأصول التّاريخيّة لمسألة تكفير المسلم، ط1، 1397هـ/ 1977م.
6- محمّد ناصر بوحجام، ملاحظات حول تاريخنا القديم كيف ندرسه وكيف نحقّقه، ط2، المطبعة العربية، غرداية، الجزائر، 1998م.
7- يوسف جعفر سعادة، دور القراءات الخارجية في تدريس التّاريخ، النّاشر مؤسّسة الخليج العربي، القاهرة، 1985م.
8- ندوة الفقه الإسلامي، جامعة السّلطان قابوس، مسقط، سلطنة عمان، أفريل 1988م.
9- جريدة النّصر، قسنطينة، الجزائر، عدد: 13 جانفي 1988م.
10-مجلّة الزّهراء، جامعة آل البيت، المفرق، الأردن، المجلّد الثّالث، العدد الثّالث عشر، صفر 1417هـ/ يوليو 1996م.
--------------------
الهوامش
(1) الدكتور سيِّد حامد النسَّاج، رحلة التّراث العربي، ط3، دار المعارف، القاهرة، 1987م، ص: 10.
(2) عثمان حشلاف، التّراث والتّجديد في شعر السيَّاب، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1986م، ص: 12.
(3) محمَّد ناصر بوحجام، ملاحظات حول تاريخنا القديم، ط2، المطبعة العربيّة، غرداية، الجزائر، 1998م، ص: 40.
(4) التراث والتّجديد في شعر السيّاب، ص: 15.
(5) محمّد ناصر بوحجام، «نخاف من التاريخ فَنجْنِي عليه»، جريدة النّصر، قسنطينة، الجزائر، عدد: 13/01/1988م.
(6) رحلة التّراث العربي، ص: 9.
(7) نسجّل أنّ كثيرًا من المؤسّسات والهيئات والجمعيات، وبعض الأشخاص... قام بهذا العمل، لكنّ العمل يبقى كبيرًا وممتدًّا.
(8) عبد العزيز الرِّفاعي، توثيق الارتباط بالتّراث العربي، ط4، مطابع البلوي، جدّة، ربيع الأوّل 1393هـ، ص: 22.
(9) ينظر لمزيد من التّفاصيل، الدكتور مصطفى حلمي، الخوارج، الأصول التّاريخيّة لمسألة تكفير المسلم، ط1، مطبعة التّقدّم، القاهرة، 1977م، ص: 16، 17 .
(10) الدكتور عوض محمد خليفات، نشأة الحركة الإباضية، عمَّان، الأردن، 1978، ص: 12. ينظر النّظرة نفسها الدكتور محمود إسماعيل، الخوارج في المغرب الإسلامي، ط1، دار العودة، بيروت، 1976م، ص: 6. وكتابنا: «ملاحظات حول تاريخنا القديم كيف ندرسه وكيف نحققه»، ص: 12 – 25.
(11) الدكتور محمَّد ناصر بوحجام، «دعوة إلى دراسة الفكر الإباضي»، مجلَّة الزهراء، جامعة آل البيت، المفرق، الأردن، المجلَّد الثّالث، العدد الثّالث عشر، صفر 1417هـ/ تموز/ يوليو 1996، ص: 54.
(12) المرجع السابق، ص: 55.
(13) ندوة الفقه الإسلامي، جامعة السّلطان قابوس، مسقط، 1988م، ص: 238. ينظر الملاحظات التي قدّمتها جمعيّة الشّيخ أبي إسحاق إبراهيم اطفيش لخدمة التّراث حول ضرورة دراسة الفكر الإباضي بمنهجيّة علمية واضحة، تضاف إلى جهود الدّارسين لهذا الفكر، وهي قليلة بالنّسبة لما يجب نحو هذا الفكر، ينظر في ذلك الرّسالة التي أرسلتها الجمعيّة إلى الباحثين : «استشارة علميَّة حول إنشاء مشروع معجم لتآليف علماء الإباضية».
(14) بقيت عدّة قضايا معلّقة، في حاجة إلى الحسم، وكثير من الأسئلة، تتطلّب إجابات مقنعة، ونظرات في حاجة إلى توضيح الرّؤى فيها، وكثير من المواقف في حاجة إلى تفسيرها على الأصول التي تحكم الفكر الإباضي... ينظر على سبيل المثال كتابنا: «ملاحظات حول تاريخنا القديم كيف ندرسه وكيف نحقّقه»، ص: 31 ـ 45.
(15) الدكتور يوسف جعفر سعادة، دور القراءات الخارجية في تدريس التّاريخ، النّاشر مؤسّسة الخليج العربي، القاهرة، 1985م، ص: 17.
(16) التّراث والتّجديد في شعر السيَّاب، ص: 16.
(17) للوقوف على أهميّة هذه الملاحظة، ينظر كتابنا: «التواصل الثقافي بين عُمان والجزائر»، ط1، مكتبة الضامري النشر والتوزيع، السيب، سلطنة عمان، 1423هـ/ 2003م.

نشر المقال في دورية الحياة، العدد: 11، 1428هـ/2007م، ص123-140.

اسم الكاتب