يعيش العالم اليوم متغيِّرات كثيرةً، أنتجت تحدِّياتٍ عديدة؛ اقتصاديَّة واجتماعية وسياسية، وأخطرها التحدِّيات الفكرية والثقافية، التي أفرزت مجموعتين من الناس: مجموعةٌ تحاول بسط هيمنتها وقوَّتها على كلِّ ما يدُبُّ على البسيطة، عن طريق فرض فِكرِها وثقافتها على العالم؛ انطلاقًا من شعار عالـمِيَّة الثقافة أو كونيَّـتها ووحدة الثقافة. فسنَّت لذلك قوانين، وابتكرت أنظمة، واخترعت نظريَّات، تُعلِي من شأنها وتحطُّ من قيمة ما يمتلكه غيـرُها، وأجرَت بحوثًا، وأخرجت دراسات، تُقنع بها غيرها أن لا فائدة له من التحليق في غير سربها، أو السير في غير طريقها، وتبنِّي غيرِ فكرها وآرائها...

ومجموعةٌ ثانية تنظر إلى المجموعة الأولى بعين الإكبار والإعجاب، أو بنظرة الرهبة والخوف؛ فكانت تستجيب لأوامرها، وتخضع لتوجيهاتها، وتحرِص على تحقيق مصالحها، وتنفيذ مخطَّطاتِها، أو على الأقل تلتزم بعدم الوقوف في طريق مطامعها.

رأت المجموعةُ الأولى أنَّ فرض الفكر بالقوة، وبسط الهيمنة بالقهر، قد يعرِّض خُطَطَها للنسف، ويهدِّد مصالحها بالتعطيل، وقد يُـؤلِّب عليها الشعوب، فابتكرت وسيلةً ماكرة مخدِّرة تنطوي على دسِّ السُّم في الدَّسَم، وهي فكرة ”الحوار بين الحضارات“، لـتُمرِّر من خلاله مشروعاتها، وتصلَ إلى أهدافها، وهي الاستيلاء على مقدَّرات الشعوب، وفرض سيطرتها، المطلقة على كلِّ ما يدُبُّ على المعمورة. [من اللائق عدم بدء البحوث بتقرير حكمٍ مسبق ـ مهما بدا الحكم صحيحًا ومقبولاـ

بل ندع القارئ يقتنع ويصل إلى الحكم بمفرده في آخر البحث. والله أعلم (التحرير)]
فبعد زوال نظامٍ ثُنائِـيِّ القطبية وبروز العولمة، تجدَّد الحديث عن الحوار بين الحضارات، إمَّا ليكون تكريسًا للهيمنة والسيطرة الأحادية على العالم بعد أفول نجم القطب المنافس، أو [”وإمَّا“ ﴿إِمَّآ أَن تُـلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نـَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ (التحرير)] لتحدِّي العولمة نفسِها، وبالشكل الذي يُعزِّز فُرص التعاون بين الثقافات المختلفة، ويُبعد شبح الصراع بين الحضارات.

وقد تعالت أصواتٌ من هنا وهناك تُنادي بالحوار، وتركِّز على التعاون بين الشعوب، وتحثُّ على التواصل الثقافي، كلُّ ذلك سعـيًا لإزالة مظاهر التوتُّر والصدام وإتاحة فُرص التقارب والتآلف والتجاور، ومدِّ جسور التعاون واحترام الهويَّات الثقافية الخاصة، وتقدير الحضارات الـمتنوِّعة. ومن جهة أخرى هناك من سعى إلى تأكيد هذا النهج لتحقيق مكاسِبَ خاصَّة، وبلوغ أهدافٍ مريبة، تخدُم مصالحه، وتغتصب حقوق الآخرين. [حكم مطلق غير معروف الوجهة (التحرير)].

وقد عُقِدت من أجل ذلك مؤتمرات، وكُتِبت دراسات، وأُطلِقت تصريحات، وأُقيمت ندوات، وكُرِّست جهود... اصطبغت بصبغة الأهداف التي كان يرمي إلى تحقيقها كلُّ من قام بأحد هذه الأعمال.

نحن في هذا المجهود المتواضع نُحاول الإدلاء بما يُمكن لنا في الموضوع، نشير إلى أنَّـنا لا نُقدِّم دراسة شاملة أو معمَّقة في هذه المسألة التي أسالت الحبر، وأذابت الأمخاخ، واستنفذت الطاقات... إنَّما نركِّز على تقديم ملاحظاتٍ عامَّة، ربَّما تُسهم في أخذ الاحتياطات فيما نحن مُقدِمُون عليه، والتهـيُّؤ والاستعداد والتخطيط الكامل للعمل في هذا المضمار الكبير والصعب التحرُّك فيه.

وقد اكتفينا في هذه المحاولة بالحديث عن حوار الحضارات فقط. وبـما أنَّ للموضوع علاقة بالثقافة والعولـمة فإنَّنا سمحنا لأنفسنا بالتطرُّق إليهما؛ تحليلاً للمسألة ومناقشة لها، وتعميقًا لبعض المفهومات. ثم تطرَّقـنا لدور الإسلام في تعزيز الحوار، ونظرتِه إليه، وكيف يكون. وختمنا هذا العمل بذكر بعض الشروط المطلوبة في الحوار. فالله نسأل الهداية والتوفيق.


حقائق:
قبل التطرُّق إلى موضوع الحوار بين الحضارات نريد أن نضع بين يدي هذا الموضوع بعض الحقائق :
1 ـ إنَّ التعدُّد والتنوُّع الثقافي سنَّة الكون وناموس ثابت، فالحياة أساسُها التنـوُّع والتعدُّد، كلُّ من تحرَّك في نشاطه وعمله على غير هذه القاعدة فقد عاكس الفطرة فضَلَّ الطريق وأخطأ المسيرة، وعاش على هامش الحياة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُم وَأَلْوَانِكُمُو إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٌ لِلْعَالَمِينَ﴾( ). إنَّ اختلاف الألسُن يعنى تعدُّد القوميات، واختلافُ الألوان يعنِّى تعدُّد الأجناس البشرية. وقال تعالى: ﴿...لِكُلٍّ جَعَلْـنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَّمِنْهَاجًا وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمُ, أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ء اَتاكُمْ فَاسْتَبِقُواْ الْخَـيْرَاتِ...﴾( )، «وهذا يعنى تعدُّد الشرائع والأديان، وإذا كانت الحضارة تنشأ من فكرة دينية، وإذا كانت الحضارة مجموعة الظواهر والمعطيات المنبثقة عن أمَّة أو تصوُّر مَّا (فكرة دينية) فإنَّ الإيمان بتعدُّد الحضارات، وإذا كان هذا الاختلاف والتعدُّد من آيات الله، فإنَّ الذي يسعى لإلغاء هذا التعدُّد يُعَدُّ ساعيا إلى طمس آيات الله في الوجود، بالشكل الذي يهدِّد الوجود الإنسانـيَّ على سطح المعمورة؛ مـمَّا يدفع بنا إلى التأكيد على ضرورة المحافظة على تنوُّع الـهويَّة الثقافية لكونه يُغني الحياة الإنسانية، واحترامُه أصبح أمرًا واجبًا ﴿لآَ إِكْرَاهَ فيِ الدِّينِ﴾( )، وجميعُ الأجناس متساوية، وكلُّ تراثٍ مجتمعـيٍّ يُسهم في التراث الإنساني»( ).
فالتعدُّدية الثقافـيَّة مكسبٌ كبير على البشرية أن تستثمره في التطوُّر والتقدُّم والإثراء، «وهي أفضل ضمانةٍ لقدرة الإنسان على إبداء أجوبةٍ مناسبة للتحدِّيات المختلفة»( ). وهي ضرورة عالمية؛ لأنَّها تُسهم في نمو الفكر والقيم والمفهومات المشتركة، وتُساعد على إغناء الحضارة الإنسانية، باحتضانها لمختلف أنواع الإبداع والعطاء.

2 ـ بما أنَّ الإنسان هو محور التنمية والتطوُّر، وهو الذي صنع الحضارة بالتعاون والاشتراك مع آخر وآخر عبر الحقب والأزمان، فإنَّ حوار الحضارات، يجب أن يُنظر إليه: «ضمن منظور النسق الطبيعي، الذي تقتضيه سنَّة الكون وناموس الاجتماع الإنساني. إذ لم يسجِّل لنا تاريخ الإنسان قاطبةً أنَّ العالم استطاعت حضارة واحدة أن تتحكَّم فيه وحدها[يبدو في صياغة العبارة خللا (التحرير)]؛ وإنَّما نجد باستمرار حالات الأقطاب الحضارية المتعدِّدة، لا القطب الحضاري الواحد هي التي تتحكَّم في شؤون العالم بأسره»( ). وحتَّى لو وجدنا اليوم من يعمل على اقتراح نموذجٍ واحد، وتقديم نظامٍ موحَّد، يُجهد نفسه لفرضه على الناس كلِّهم، نقول له إنَّك تطلب أمنيةً مثالـيَّة، وتنشُد أمرًا مستحيلاً.

3 - إنَّ الحوار تقليدٌ ثقافي قديم، وهو أسلوب مارسته كلُّ الحضارات، سواءٌ من حيث التأثـرُ بغيرها أو التأثيرُ فيها، أم من حيث فتح النقاش والمساءلة، وإجراء لقاءات، وعقد مجالس وتبادل وجهات النظر في بعض المسائل التي تتطلَّب معرفة ما عند الآخر؛ «ولعلَّ أبلغ دليلٍ على ذلك الحوار الحضاري الذي دار بين الحضارة الإسلامـيَّة والمسيحية... وقد حاور النبيء  قساوسة نجران ورهبانَهم... وكتب إلى المقوقس والنجاشي وهرقل... وتابع المسلمون هذا الحوار بالمشافهة والكتابة، لا يكادون يفـتُرُون عنه إلاَّ في فترات الصدام المؤسف بين أتباع الدينيـن، وأشدُّها فترة الحروب الصليبية، ثمَّ فترة الاستعمار الغربي. وفي العصر الحديث ومنذ أربعين عامًا على وجه التحديد تجدَّد الحوار الإسلاميُّ المسيحيُّ، وعُقدت له لقاءات ونظِّمت في برمانا، والرياض، والفاتيكان، وطرابلس الغرب، وجنيف، وباريس، وساليبورج، والقاهرة، وبيروت، وليجون [ربما ”ليون“ (التحرير)]، وتونس، وهونغ كونغ، وقرطبة، والسودان عام 1994م وغيرها»( ).

4- سيطرة حضارة ما يؤدِّي إلى إضعاف الحضارات الأخرى، من هنا يجب على كلِّ حضارة أن لا تقبل بهيمنة أيِّة حضارة عليها. بل يجب أن تكون قادرةً على التأثير في الآخرين، وحاضرةً بمحاورتها الأخريات، وأن تفرض وجودَها في الساحة، وتتفاعَل مع غيرها تأثيرًا وتاثُّرًا. مع الوضع في عين الحسبان أنَّ الحفاظ على الهويَّة أمرٌ مهمٌّ، وأنَّ التواصل لا يقلُّ أهمِّية أيضًا. والثقافة التي تأخذ ولا تعطي تظلُّ ثقافة الأضعف، يسهل السيطرة عليها. [في العبارة بعض التناقض؛ فإذا كانت الثقافة الأضعف تأخذ ولا تعطي فهي بالضرورة ثقافة ذات قابلية للسيطرة (”قابلية الاستعمار“ مالك بن نبي) فكيف تكون قادرة على المحاورة والتأثير وعدم قبول سيطرة أي حضارة عليها، فليُـتأمَّل (التحرير)]

5- قد يُـتَّخذ الحوار وسيلةً لقضاء مصالح خاصَّة، وقد يكون ذريعةً لتمرير خطط ومشروعات؛ لما قد يحمله هذا المصطلح المبهم من دسائس ومؤامرات يستغلُّ في إذابة الثقافات الصغرى، وإلغاء الخصوصيات والهويَّات، وعلى كلِّ حضارة التفطُّن إلى ذلك، والتعامل مع الحوار بحذر وتيقُّظ، والتحرُّك معه بخطط مدروسة، ومناهج واضحة، والسير معه بأهدافٍ مرسومة ومحدَّدة.

6 - من آثار الحوار بين طرفين غير متكافئين، فرض الطرف القويِّ المهيمن على الطرف الثاني اختراق سيادته الثقافية[اختراق الطرف القوي المهيمن السيادة الثقافية للطرف الثاني الضعيف (التحرير)]؛ بالتدخُّل في مناهج تعليمها مثلاً، وتوجيه منظومتها الإعلامية، وترتيب علاقتها بفئات المجتمع، وتحديد نمط معيشتها، والتدخُّل في وضع قوانينها. كما قد يُستغلُّ التقارب المكاني لنشر نموذجه الثقافي في الحياة على حساب الخصوصية الثقافية للطرف الثاني.

7 - إنَّ الغرب يحاول السيطرة على العالم بكلِّ ما يملك من قوَّة، وأمريكا تعمل على أمركة العالم اقتصاديًّا تمهيدًا للهيمنة عليه ثقافيًّا، ومن ثمَّ إلغاء الثقافات الأخرى. فقد قال ”روزفلت“ في الأربعينيات من القرن العشرين: «إنَّ قدَرَنا هو أمركة العالم»، وقال ”نيكسون“: «يجب على أمريكا أن تقود العالم»، وقال ”جورج بوش الأب“ في أوائل التسعينيات: «إنَّ القرن القادم ينبغي أن يكون أمريكيًّا» ، وهذا ابنه اليوم ينفِّذ دعوة أبيه، ويعمل على الهيمنة على مقدَّرات العالم، وقمع أيَّة محاولة للنهوض أو البروز، والإصرار على ضرب الثقافات وهدمِها أو تفكيكها من الداخل... والمستهدَف الأوَّل اليوم هو الحضارة الإسلامية أو العالم الإسلامي. فالغرب عمومًا والولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا ترى أنَّ المسلمين يملكون من مقوِّمات القوَّة، ومن أسباب النهوض ما يمكِّنهم من منافسة الحضارة الغربية، بذلك فهُم يمثِّلون الخطر الأوَّل عليها، لهذا يجب ضربُهم وإضعافهم، وقد تكون فكرة فتح الحوار معهم إحدى وسائل هذا الإضعاف. [أحكام عامَّة، ورغم صحَّتها فهي تحتاج إلى البرهنة بالحقائق والأدلَّة والأرقام إن وجدت (التحرير)]

هذه بعض الحقائق التي يجب ألاَّ تغيب عنَّا ونحن ندعو إلى الحوار مع الحضارات الأخرى، أو نستجيب لدعواتها، أو نمارس هذا العمل، ونعيها جيِّدًا حتَّى لا نفوِّت الفرصة على أنفسنا في التقارب، ولا نفقد ذواتنا في خضمِّ هذه الحركات الهائلة المصيريَّة في علاقتنا مع الغير، ولنعلم أنَّنا «أمام حضارة قويَّة طاغية تركب فوق حضارة قديمة صلبة وعميقة الجذور، ولكنَّها غير مستعدَّة لتلقِّي الصدمة الجديدة بعدُ»( ).

الثـقافـة والعـولـمة:
إنَّ ثقافة أيَّة أمَّـة تتكوَّن من العموميَّات والخصوصيَّات والمتغيِّرات. والمتغيِّرات أخطر ما يكون فيها باعتبار أنَّها هي التي ترجِّح كفَّة استمرارية تلك الثقافة أو توازنها، واضمحلالها أو اضطرابها، فإن أحسنت التعامل مع هذه المتغيِّرات بحكمةٍ وعقلانية، وبنظرة شمولـيَّة متَّزنة واعية بالمحيط الذي يدور أو يحيط بها، وفاقهة لمعنى الأصالة والمعاصرة، كانت النتيجة ـ بإذن الله ـ مقبولة، وفي صالح تلك الثقافة. وإن كان العكس صارت إلى عاقبة وخيمة. والحوار الذي يجري بين الثقافة [كذا ولعله ”الثقافات“ (التحرير)] يندرج في هذا السياق.

هناك تعريفات كثيرة للثقافة، نأخذ بعض ما ذكره مالك بن نبي: هي «مجموعة من الصفات الخلقيَّة والقيم الاجتماعية التي تؤثِّر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريًّا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي وُلد فيه، فهي على هذا المحيط الذي يشكِّل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدِّد مفهومها، فهي المحيط الذي يعكس حضارة معيَّنة، والذي يتحٍرَّك في نطاقه الإنسان المتحضِّر»( ). ويقول أيضًا: «هو الوسط الذي تتشكَّل فيه جميع خصائص المجتمع المتحضِّر، وهي الوسط الذي تتشكَّل فيه كلُّ جزئية من جزئياته، تبعًا للغاية العليا التي رسمها، بما في ذلك الحدَّاد والفنَّان والعالم والراعي والعالِم والإمام. وهكذا فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمَّنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كلُّ ما يعطي الحضارة سمتها الخاصَّة»( ).

إذا كانت الثقافة هي التي تشكِّل أفراد الأمَّة، وهي الوسط والمحيط الذي يتحرَّك فيهما أفراد تلك الثقافة، وهي التي ترسم لهم القيم والخصائص التي ينشؤون عليها، وهي التي تُوجِد الانسجام والتوافق والتآلف الذي يجب أن يسود أفرادها الذين ينتمون إليها، وهي التي تُعطي السمات التي تميِّز أمَّة ما؛ فإنَّ العمل على المحافظة على هذه الثقافة ـ أصيلة بتميُّزها، منسجمة مع المحيط الذي توجد فيه، متعاونة متقاربة مع الثقافات التي تحتكُّ بها... ـ يُعدُّ مطلبًا أساسيًّا، وهو ما يوفِّره الحوار إذا سار في الطريق السليم، ولم يبتعد عن المبادئ، ولم يخطئ السبيل إلى الأهداف المرسومة المنسجمة مع حقيقة الثقافة كما أشار إليه مالك بن نبي.

من هنا ينبغي معرفة ماذا يُراد بالحوار بين الثقافات، والعلم بحقيقة ما يقدَّم في هذا المجال كالعولمة مثلاً، قيل: «إذا كانت العولمة أمرًا واقعًا أو واقعًا أمرًا [كذا ولعل الصواب ”واقعًا مُـرًّا“ (التحرير)]، خاصَّة إذا اتَّخذنا [كذا] خطابًا ”حتمويًّا“ فلتكن العولمة عندئذ مناسبة كبرى لأن تظهر الشعوب تمايُزاتها الثقافية، وأن تُبرز خصوصيَّاتها الحضارية وإبداعاتها الدفينة، حتَّى لا تكون العولمة هيمنةً ثقافية واختراقًا للثقافات الأخرى وإفقارًا لها. فيمكن أن تكون العولمة مناسبةً لإبراز الموارد الذاتيَّة في مختلف مجالات الحياة والثقافة»( ).

إذن فالحذر مطلوبٌ في التعامل مع العولمة، والكياسة والفطنة والوعي ضرورية في هذا العمل. هذه الملاحظات أساسية أثناء الحوار؛ فالعولمة تحمل أبعادًا كثيرة، يجب التنبُّه إليها؛ كالأبعاد الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية... وقد عرَّفها بعضهم بقوله: إنَّها «القوَّة بمفهومها الشامل الاقتصادي والسياسي والعسكري والتقني والإعلامي والثقافي. وهي الأساس الذي سوف يصنع أو يكوِّن شكل النظام العالمي في القرن الواحد والعشرين»( ).

فالعولمة تمثِّل القوة الشاملة لكلِّ المجالات، القوَّة الكاسحة التي تُعطي من يظفر بتسليطها على غير القادرين على ذلك، تعطيه الفرصة كي يُهيمن ويسيطر ويكتسح، فلـيَعِ هذه الحقائق من يحاور، وليعرف كيف يتعامل معها وهو يتحاور. وإذا نظرنا إلى العولمة في بُعدها الثقافي وجدناها تدخل سوق التعامل والتجاور والتحاكُك كأيَّـة سلعة تجارية أخرى، تخضع لقانون العرض والطلب، والمساومة والمقايضة والمزايدة والاحتكار... والعولـمة تُسهم في بروز تناقضات كثيرة تجمع بين التآلف والتوحيد وبين المقاومة والاختراق، كما يقول ”كارل بوراني“، ويقول ”جيمس ميتلمان“: هي «عمليَّةُ مقابلةٍ ثقافية بين الحضارات، يعتريها الكثير من التناقض وعدمُ الاستمرار»( ).

هكذا يتبيَّن لنا أنَّ العولـمة في بُعدها الثقافي تكون خطيرة، لروح الهيمنة والسيطرة والقهر التي ينطلق منها من يحاور غيره، وهو في موقع القوي القاهر القادر على اختزال الحضارات الأخرى، بعد اختراقها. وهو ما يؤدِّي إلى صدام الحضارات، وصراع الثقافات بدل الحوار. وفي هذا يقول ”صموئيل هنتنغتون“ في مقاله ”صدام الحضارات“ الذي نشره في مجلَّة ”شؤون خارجية“ الأمريكية في عام 1993م: «تفيد فرضيَّـتُنا أنَّ المصدر الجوهري للصراعات في هذا العالم الجديد لن يكون بالدرجة الأولى إيديولوجيا أو اقتصاديًّا، فالانقسامات الكبيرة بين الجنس البشري والمصدر المهيمن للصراعات سيكون ثقافيًّا، وستبقى الدولة القوميةُ صاحبة أقوى دور في الشؤون العالـميَّة. لكن الصراعات الرئيسية للسياسات الكونية ستحدث بين الدول والمجموعات المنتمية لحضارات مختلفة، وسيهيمن صدام الحضارات على السياسات الكونية، وستكون خطوط الصدع بين الحضارات هي خطوط الصدع في المستقبل، وسيكون النزاع بين الحضارات أحدث مرحلة في تطوُّر النـزاعات في العالم الحديث»( ).

فالحوار الذي ينطلق من مفهوم العولـمة يكون مكرسًا لتغليب المصالح على تقديم المساعدة للذين يُجرُّون للحوار. ويوظَّف للهيمنة بدل الـتعاون والـتفاهم.

مع كلِّ ذلك لا نقطع اليأس من الاستفادة من الحوار والنقاش، ومحاولة التقارب والتفاهم، لأنَّه السَّبيل القويم لنـزع سوء الفهم، وإعطاء الفرص لتضييق هوَّة الخلافات، وإزالة فتيل الصّراعات. «والحوارُ بين الإنسان من النوافذ الأساسيَّة لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعيَّة سويَّة بدونها. وعليه فالحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي، وإنَّما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها والانطلاق منها مجدَّدًا ومعًا في النَّظر إلى الأمور»( )، ودينُنا الحنيف علَّمنا الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، فما هي نظرة الإسلام للحوار؟

الإسلام ودوره في تعزيز الحوار بين الثقافات:
إنَّ الإسلام هو دينُ الحوار والاعتراف بالآخر، وهو شريعةُ تطويرِ القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإيجادُ السُّـبُل الكفيلة بتحقيق ذلك بما يساعد على العيش بسلام وأمن وطمأنينة، ويبتعد بالإنسان أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر. لهذا دعا إلى الحوار والدعوة بالتـي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة، والطرق السليمة في مخاطبة الآخر. قال تعالى:﴿ادْعُ إِلَىا سَبِيلِ رَبـِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبـَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾( )، هذه الآية تشير إلى حسن المخاطبة، وحسن الحوار، لكي نتعارف ونتقارب، ولكن من دون أن نتنازل عن الدعوة إلى سبيل الله، أي لا تنازل عن مبادئ الإسلام( )، فليفقه جيِّداً من يحاور المبادئ التي ينطلق منها وهو يحاور؛ فالآية تدعو إلى مخاطبة الآخر بالحسنى لكي يعرف ما عند المسلمين، لا أن يحاوره كي يتنازل له عن مبادئه. وقال أيضا: ¬﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّلذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمَـنَّا بِالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَـيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَـيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُم وَاحِدٌ وَّنَحْنُ لَهُو مُسْلِمُونَ﴾( )، فالحوار ممكن لأنَّ هناك قواسمُ مشتركة، وأنَّ هناك مجالا للتفاهم والتقارب، وهي الإيمان بما أُنزل على المسلمين وغيرهم، فالمصدرُ واحدٌ وهو الله، والأصل واحدٌ وهو الإسلام؛ فليتعارفوا، وليعرفوا بعضهم، وليعترفوا بما عندهم جميعًا، ومن ثم فليتقاربوا وليتعاونوا على ما هو صالح لهم جميعا. فالقران يعطينا أسلوب بدء اللقاء والحوار، وكيف نستغلُّ نقط التلاقي بين المتحاورين. وبيَّن الأصول التي يمكن الاتفاق عليها وركَّز على ذلك فقال: ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوِاْ اِلىَا كَلِمَةٍ سَوَآءِم بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ, أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا اَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾( )، ثمَّ وضَّح الإسلامُ نوع العلاقة التي يجب أن تسود المسلمين وغيرهم؛ إنَّها علاقة التعاون والإحسان والبر والعدل. فهذا هو الحوار الحضاريُّ والعلاقة السامية: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمُو أَنْ تَبَرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمُو إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾( ).

إنَّ القرآن الكريم مليءٌ بالآيات التي تُخاطب أهل الكتاب؛ تؤكِّد الحقائق المشتركة بين الديانات السماوية، أو تبيِّن نقط الافتراق بينها، مع ذلك تدعو إلى التلاقي على كلمة سواء. «وقد حاور النبيء  قساوسة نجران ورهبانهم في المدينة المنوَّرة ثلاثة أيامٍ حيث نزلوا ضيوفًا عليه في المسجد. وكتب إلى المقوقس عظيمِ القبط في مصر، والنجاشيِّ ملك الحبشة، وهرقل عظيم الروم البيزنطيين، وجبلة بن الأيهم [كذا ولعله ”الأبهم“ (التحرير)] من ملوك الغساسنة، وأسقف ضغاطر، وأسقف الروم في القسطنطينية، وأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران»( ).

لكن في الوقت نفسه لم يطلب من المسلمين التنازل عن أصولهم، والتفريط في القضية الأساسية وهي الإسلام. من هنا يُعلن القرآن عن حقيقة الحوار، وفيما يجب أن يكون، وكيف يجب أن يدور: ﴿وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الاِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فيِ الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾( )؛ إذن فالإسلام يقرُّ الحوار ويدعو إليه، ولكن يؤكِّد على الثبات على المبادئ وعدم التنازل عن الهويَّة.. نتساءل بعد ذلك عن الشروط التي يجب توفُّرها لإجراء حوار هادفٍ مثمرٍ بنَّاء؟

شروط إجراء الحوار:
1- أن ينبني على قاعدة (المعرفة والتعارف والاعتراف)؛ ينطلق منها في سبيل التقارب؛ معرفة ما عند الآخر معرفةً جيِّدة، لأنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره. والتعارفُ الذي يزيل أسباب الخلافات، ويبعد مظاهر الصراعات. والاعتراف الذي يثمِّن ما عند الآخر، ويقدِّر ما يملكه، وهو ما يُعين على التقارب والتعاون.
مثلاً إنَّ التعريف بالحضارات والثقافات التي قلَّ الاهتمامُ بها، أو هُمِّشت لأسباب، يسهم في دفع عمليَّة الحوار إلى القطب الإيجابي؛ فإنَّ لجنة الخبراء في الدراسات المقارنة للحضارات التي اجتمعت في شهر آذار 1949م أقرَّت بأنَّ «مشكلة التفاهم الإنساني هي مشكلة العلاقات بين الثقافات؛ ومن هذه العلاقات لا بدَّ أن ينشأ مجتمعٌ عالمي جديد يقوم على الفهم والاحترام المتبادل، وهذا المجتمع ينبغي أن يتَّخذ شكل مذهبٍ إنساني جديد (New humanism) والتي يمكن فيه للعالـميَّة (Universalism) أن تتحقَّق من خلال الاعتراف بالقيم المشتركة بين الحضارات»( ). تطبيقًا لهذا التوجيه أعدَّت اليونسكو برامج كثيرة، منها «البرنامج الخاص بترجمة الروائع الأدبية، وإحياء ذكرى كبار الفلاسفة أو العلماء أو الأدباء الذين ينتمون لمختلِف الحضارات...»( ).

2 - أن تعمل كلُّ ثقافة على المحافظة على خصوصيَّاتها، وتحرص على مواكبة العصر ومستجدَّاته ومتغيِّراته، وعلى أفرادها وعيُ ذلك وعيًا تامًّا. وقبل أن تبادر بالحوار أو تستجيب له، على المنتمين إليها القيام بنقدٍ ذاتي، وبتصحيح داخلي، وإصلاح ذات البين، ومعرفة حقيقة ما تتمتَّع به ثقافتهم، وفقه ما يُراد لهم من هذا الحوار.

3 - أن يعيَ الذين يريدون الدخول في هذه العملية الكبيرة الخطيرة واقعهم الذي يعيشونه من كلِّ جوانبه، من حيث العلاقاتُ التي تسود بينهم، من حيث التمثُّلُ الحقيقيُّ للثقافة التي سيجعلونها طرفًا في الحوار والمساءلة، من حيث النظرةُ التي ينظر بها إليهم الآخر المحاور، من حيث الفكرة التي يحملونها عن أنفسهم؛ غلوًّا في الاعتداد بالنفس على غير الحقيقة، أو فقدًا للثقة بالذات جبنًا وخوفًا، فيدخلون مضمار الحوار مغرورين أو مهزومين، والنتيجة معروفة وهي الاندحار والانكسار والتواري فالخضوع والاستسلام، وغير ذلك من الأساسيات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار قبل بداية المغامرة.

نحن كمسلمين المنظور إلينا بنظرة خاصَّة علينا القيام بأعمال كثيرة قبل الدخول في حوار هادف ومسؤول ومثمر، على رأسها إصلاح وضعنا الداخلي، وتصحيح نظرة الآخر إلينا، والتأكُّد من حسن نيَّته معنا وهو يحاورنا. نتساءل مثلاً ماذا قدَّمت هيئاتنا الاجتماعية ومؤسَّساتنا التعليمية ومراكزنا الثقافية ودورنا التربوية من جهودٍ أو واجبات في سبيل التعريف بثقافتنا، والمحافظة على تراثنا، وتحصين هويَّتنا، وغرس الثقة بإمكاناتنا وبأنفسنا... حتى نتسلَّح به أثناء الدخول مع الآخرين لنكسب الرهان؛ رهان التعريف بأنفسنا والمحافظة على كياننا والتأثير في غيرنا، ودفع عجلة التعاون والتعارف إلى الأمام، والإضافة إلى ثقافتنا من دون فقدان أصالتنا، ومن دون أن نتعرَّض للتهميش والإقصاء. هنا نقول كما قال أحدهم: ”في الوقت الذي يدعو فيه بعض المسلمين إلى الحوار والتقارب مع الأديان الأخرى والحضارات والثقافات، نجد الدعوة إلى الحوار بين المسلمين أنفسهم وإلى تقاربهم دعوة ضعيفة، أو نجد أنَّها تُقام وغير مرغوب فيها نفسيًّا ولا عمليًّا. كما أنَّ هذه الدعوات تدور وصفوف أهل الكتاب أكثر تماسكًا، وصفوف المسلمين أكثر فُرقة، تقام والمسلمون لا يحملون نهجًا ولا خطَّة يلتقون عليها لتحقيق أهدافهم الربَّانـيَّة التي تغيب في عجاج الخلاف والشقاق...“.

إنَّه لا يمكن فتح الحوار من موقع الضعف، ومن موقف الحاجة إلى الآخر المتحاور معه، ومن منطلق الشعور بالانهزام والضعف والتصدُّع من الداخل. يمكن الحوار والتعاون حين يكون الإسلام معزَّزًا مكرَّمًا مُحترمًا معروفًا عند ذويه، مرضـيًّا به عند أهله.

4 - أن يحترم الحوارُ السيادة والخصوصيَّات الثقافية، ويبتعد عن التسلُّط وإلغاء الآخر؛ نذكِّر هنا بالمادَّة الأولى التي جاءت في إعلان المبادئ سنة 1966م المنبثق من المشروع الذي احتضنته اليونسكو ”الفهم المتبادل للقيم الحضارية للشرق والغرب“ الذي استمرَّ من عام 1957 إلى عام 1966م، يقول الإعلان في مادَّته الأولى:
أ- كلُّ حضارةٍ لـها اعتبارها وقيمها التي يجب المحافظة عليها واحترامها.
ب- كلُّ شعبٍ له الحقُّ وعليه واجب تنمية حضارته.
ج- كلُّ الحضارات بكلِّ ما فيها من تنوُّع واختلافات عميقة وتأثير متبادل على بعضها البعض جزءٌ من الإرث العام للبشرية.( )

5- نحن كمسلمين [تعبير شائع، لكن المعروف أن ”الكاف“ للتشبيه أي أنَّنا نشبه المسلمين..، والأولى التعبير بـ: ”نحن المسلمون، أو نحن باعتبارنا مسلمين..“ (التحرير)] نريد أن نكون طرفًا في الحوار المفتوح على مصراعيه في الوقت الحاضر، علينا أن نعي حقيقة ما نتمتَّع به الآن من قيمة حضارية، وما نحتلُّه من مكانة في قلوب الذين نريد أن نجرِّب معهم الحوار؛ تقديرًا أو رهبة أو استنقاصًا. وهنا نعرض الوصية التي وجَّهها الأستاذ سليمان النقيدان إلى المجتمعين في مؤتمر حوار الحضارات، الذي انعقد في جامعة الدول العربية في شهر ديسمبر 2001م: «بهذا التصوُّر الانتهازي والتسطيح الفاضح للأمور استهبلنا هذه الفرصة، ولم نكذِّب خبرًا، فسارعنا نناور الغرب وبشكلٍ متهالكٍ مستعجلين الجلوس والحوار مع الشريك الغربي والند المكافئ لنا، كما توهَّمنا والحقُّ يقال إنَّنا ذهبنا بعيدًا في أحلامنا بعد سقوط عدوِّهم الأحمر، أو كما توهَّمنا أنَّـنا العدو الأخضر المفترض، والبديل القادم، والحضارة المنسيَّة. أنا لا أعترض على مبدأ الحوار فهو نهج المتحضِّرين، وهو أيضًا ترجمة حقيقية لحسن النيات وفاتحة خير لعصر جديد من التواصل والتفاهم، بعيدًا عن الاحتراب الذي مارسه بنو الإنسان في القرون الخوالي، ولكن ليس اعتراضا بقدر ما هو تساؤُل، أعتقد أنَّه مبرَّر ومشروع من الطرف الآخر من معادلة ذلك الشعار الذي يرفعه مؤتمر (حوار الحضارات) الذي تراعاه جامعة الدول العربية...» إلى أن يقول: «... والوجود الجغرافي هو العامل الوحيد من عوامل الحضارة الذي نمتلكه في الوقت الراهن، ولا نحتكم على غيره في المستقبل المنظور، وعليه يفترض أن نعي دورنا، ونعرف حجمنا، وننغمس في حلِّ مشاكلنا الحقيقية. وليست تلك الأحلام أو الأمجاد الغابرة التي أتـمنَّى من المؤتمرين الأجلاَّء أنَّهم أدركوها، فنحن بحاجة ماسَّة إلى آليات ومقاربات من الحوار البيني الصريح (الذات مع الذات) أوَّلا، والاتصال العصري الفعَّال ثانيًا، لأنَّ الوقت يمضي والهوَّة تتَّسع والسمعة غير الجيِّدة تتكرَّس لدى العالم، فهل من مجيب؟»( ).

كأنِّي بالكاتب يردِّد قولَ معروف الرصافي:
وشرُّ العالـمِينَ ذَوُو خُمُولٍ إذَا فاخرتَهُم ذكرُوا الجدُودَا
وهَل إِنْ كَانَ حاضِرُنا شَقِيًّا نفُوزُ بكَونِ مَاضِينا سعِيدَا
ملاحظات جدُّ وجيهة، انطلقت من الواقعية في التحليل، والموضوعية في التناول، والصدق في المشاعر، والنظرة الفاحصة إلى المصير. وحرصت على تقديم الخطوات السليمة في سبيل النهوض بالأمَّة الإسلامية. ورفعت الستر عمَّا هو محجوبٌ عن الأنظار، وأزالت الغشاوة عن العيون كي ترى الحقيقة واضحة فتتحرَّك على أساسها في هذا المشوار الطويل، وتعرف كيف تدخل هذه المغامرة، ومتى تدخل، ومتى تتحاور ومع من.

الخاتـمة:
إنَّ الحوار ضرورة حياتية ومطلب شرعيٌّ ومنـزع نفسيٌّ وواجب ديني، لابدَّ أن يسود حياة الناس حتَّى يمكن لهم أن يعيشوا في سلام ووئام، وهو بين الحضارات والثقافات أوكد وأوجب؛ تتبادل من خلاله وجهات النظر، وتتعرَّف بواسطته على بعضها، وتتقارب لتتعاون على إثراء الفكر الإنساني، وتدفع بعجلة التطوُّر والتقدُّم إلى الأمام، وقد أثبت التاريخ صحَّة ذلك. إلاَّ أنَّه يجب أن يسير في الطريق السليم، البعيد عن الأغراض الوضعية، وفي منأى عن تقديم المصالح الخاصَّة التي تضرُّ بالآخرين، وفي معزل عن روح الإقصاء والتهميش والإبعاد، وفي بُعدٍ عن الغرور والتعالي والادِّعاء. وأن يتمَّ في شروطه الموضوعيَّة من الاعتراف بالخصوصيَّات الثقافية، وتسخير هذه القاعدة في إغناء الثقافات، وفي شروطه النفسية التي تنطلق من الثقة بالنفس، والاعتزاز بالذات، والشعور بالقدرة على العطاء والإسهام مع الجميع.


 

ـ سورة الروم الآية: 22.
ـ سورة المائدة، الآية: 48.
ـ سورة البقرة، الآية: 256.
ـ الدكتور باسم علي خريسان: «العولمة والتحدِّي الثقافي»، ط1، دار الفكر، بيروت، سنة2001م، ص: 151. ينظر أيضًا: نجريار محمد: «القرآن والعلاقات الحضارية»، مجلَّة قضايا دولية، العدد 357، 1996، ص: 34. وأحمد صدقي الدجاني: «الدين والنظام العالمي بمنظور إسلامي». مجلة الأكاديميَّة المغربية (الرباط). العدد: 12، 1995م، ص: 101.
ـ «العولمة والتحدِّي الثقافي»، ص: 139. نقلاً عن محمد سعيد، تقرير هن الندوة الدولية: ”إشكالية التواصل الحضاري بين الشرق والغرب“، مجلة المستقبل العربي، العدد: 233، 1998م، ص: 57.
ـ محمَّد محفوظ: «مدارات حوار الحضارات»، (http\: www.writers.alriadh.com.sa\k).
ـ «العولمة والتحدي الثقافي»، ص: 182. ينظر أيضًا، السيد ياسين: «حوار الحضارات، نحو خطة قومية للحوار مع الثقافات الأخرى»، ص: 86. ود/ عز الدين إبراهيم: «الحوار الإسلامي المسيحي، رؤية إسلامية»، مجلة البرلمان العربي (اتحاد البرلمانيين العرب)، العدد: 64، 1997م، ص: 51.
ـ «العولمة والتحدِّي الثقافي»، ص: 142.
ـ مالك بن نبي: «مشكلة الثقافة»، ط2، دار الفكر، بيروت، 1959م، ص: 71.
ـ م.س، ص: 152. نقلاً عن الدكتور المنصف ونَّاس: «مضامين العولمة الاتصالية والثقافية»، ص: 13.
ـ م.س، ص: 23.
ـ م.س، ص: 21. ينظر أيضًا: جيمس ميتلمان: «هواجس العولمة»، عرض مجلَّة السياسة الدولية، العدد: 131، 1998م، ص: 339.
ـ م.س، ص: 156، 157. ينظر: (Samuel p. Huntington, "The West Unigue, Not Universal". Forigian Affairs, vol, 75, n° :60.nov\dec 1996.).
ـ محمَّد محفوظ: «الإسلام والحوار الثقافي»، (http\:www.writers.alriadh.com.sa\k).
ـ سورة النحل، الآية: 125.
ـ ينظر تعليق الدكتور عدنان علي رضا النحوي، كتابه: «حوار الأديان دعوة أم تقارب أم تنازل»، ط1، دار النحوي للنشر والتوزيع، 1421هـ/ 2001م. ص: 60.
ـ سورة العنكبوت، الآية: 46.
ـ سورة آل عمران، الآية: 64.
ـ سورة الممتحنة، الآية: 08
ـ «العولمة والتحدِّي الثقافي»، ص: 182.
ـ سورة آل عمران، الآية: 85.
ـ «العولمة والتحدي الثقافي»، ص: 183.
ـ م.س. ص. ن.
ـ م.س، ص: 185.
ـ سليمان النقيدان: «حوار الحضارات مفهوم ملفَّق وغارق في الالتباس»، جريدة الشرق الأوسط، العدد: 04/ 12/ 2001.


الدكتور محمد ناصر بوحجام
نزوى يوم: 17 محرَّم 1423هـ
31 مارس 2002م
كلـية التربـية بنـزوى
هاتف: 412840 فاكس: 431102
é-mail: bouhed@yahoo.com

اسم الكاتب