
1. الأصول التاريخية للإباضية في دولة تنـزانيا وزنجبار:
لقد كان وصول المذهب الإباضي إلى زنجبار عن طريق العرب العُمانيين الذين قدموا إلى سواحل شرق إفريقيا واستوطنوها مند عهود بعيدة، ولعل هجراتهم الواسعة واستوطانهم النهائي لهذه البقاع كان بقوةٍ أثناء قيام دولة اليـعاربـة في عُمان في القرن السابع عشر الميلادي، وقد بسطت نفوذها على ساحل شرق إفريقيا على إثر محاربتها وإجلائها للاستعمار البرتغالي الذي كان يحتلُّ هذه الأراضي، حيث ضمَّت تحت سلطانها البلاد المطلَّة على هذا الساحل، وكان منها جزيرة زنجبار وتنجنيقا التي تمُـثِّل دولة تانزانيا الآن.
ثُمَّ تلى هذه الدولة قيام الدولة البوسعيدية في بداية القرن التاسع عشر، التي خلفت اليعاربة في حُكم عُمان، حيث اتَّخذ سلطانها السيد سعيد بن سلطان في سنة 1830م من زنجبار عاصمةً له، وذلك بنقلِهِ مركز حكمه من مسقط إلى زنجبار.
وقد شهدت زنجبار في عهد سلاطين هذه الدولة تطوُّرًا مُهمَّا وانتعاشاً اقتصاديًّا صحبه حياة اجتماعية تنعم بالرفاهية والأمان، هذا ما جعل منها عاصمة لشرق إفريقيا، وجَلَبَ إليها الأنظار.
وكان هذا سببًا في أن يقدم إلى زنجبار أجناسٌ من الشعوب المجاورة لها بِغرض العيش في ظلِّ هذه السلطنة والتنعُّم بخيراتها وعدلها. فمِمَّن قدم واستوطن هذه البلاد الهنودُ والباكستانيون والفرس، والزنوج الذين نزحوا من المناطق الداخلية لإفريقيا خاصَّة منها تنجنيقا المحادية لها.
لهذا نستطيع أن نقول إنَّ الحكم العُماني استمرَّ لحقبة زمنية طويلة هنا، والهجرات المتتالية للقبائل العمانية إلى هذه الربوع واستوطانها لها عمل على توطيد وترسيخ المذهب الإباضي فيها. ولعل الزائر لأهمِّ المدن التاريخية القديمة فيها مثل بلدة كلوة، وتانقة، ودار السلام التنـزانية، وممباسة الكينية يشهد بوضوح آثار الحضارة العُمانية الباقية إلى يومنا هذا، سواء فيما خلَّفت لنا من تراث متمثِّل في المساجد والمباني والقلاع والحصون، أو في انغراس التقاليد والآداب الاجتماعية العمانية في الحياة اليومية لدى الأهالي.
كما أنَّ هذه الحضارة الطويلة جعلت كثيرًا من العرب العمانيين يفضِّلون العيش والعمل في هذه المدن إلى يومنا هذا، مع إبقائهم للصلة بوطنهم الأم عُمان، ففي كلِّ المدن التي ذكرناها آنفًا لا يزال للتواجد العربي بقاءٌ إلى يومنا هذا.
ومما عمل كذلك بقوة على تجذُّر المذهب الإباضي في هذه الربوع هو ما أقدم عليه العرب العُمانيون منذ القديم – طوال وجودهم فيها – من عمليات الزيجات الكثيرة والمتعددة مع الأهالي الأصليين أو الأفارقة السواحليين، فاختلطت دماء بعضهم ببعض، هذا ما تولَّد عليه [عنه]بعد مرور الزمن جيل جديد يحمل في عروقه الجنس العربي والجنس السواحلي في ذات الوقت، وبذلك أصبح هذا الجنس يحمل أصالة البلد وأصالة المذهب الإباضي. ولقد ازداد اختلاط الدماء أكثر مع هذا الجيل الجديد لكثرة تزاوجه مع العرب العمانيين الأصلاء [الأصيلين] لكونه يحمل في عروقه الجنس العربي، وهذا مبرر لإتمام وقبول مثل هذا النوع من الزيجات.
وبذلك فقد تشكَّل في هذه الربوع – خاصة في داخل تانزانيا - جنس جديد هو مزيج من العرب والسواحليين وهو مُتمَذهِب بالمذهب الإباضي، ومنتشر في أغلب أنحاء دولة تانزانيا من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وكذا في بعض المدن من الدول المجاورة خاصَّة في بلدة ممباسة بكينيا.
ولعل السبب الآخر الذي عمل كذلك على استوطان المذهب الإباضي فيها، هو ما عُرف به العرب العُمانيون من استعمالهم للعبيد في الأزمنة الماضية، حيث كانوا يستقدمون العبيد من الأراضي الداخلية لإفريقيا وهم من السكَّان الأصليين، فيعيشون معهم ليقوموا بمصالحهم المختلفة؛ في أعمالهم التجارية وفي خدمة أراضيهم الزراعية وفي القيام بشؤون منازلهم وما إلى ذلك، حيث عمل هؤلاء العُمانيون على إدخال هؤلاء العبيد في الإسلام وتعليمهم أمور دينهم على مذهبهم الإباضي، فنشؤوا على ذلك. وعندما انتهى عهد العبودية في هذه الأوساط في الآونة الأخيرة الماضية استمرَّ هؤلاء الأهالي وذرياتهم على ما هم عليه من تتبع للمذهب الإباضي.
ولعل السبب الأخير متمثِّل في ظروف العمل والتعايش والاحتكاك الذي كان بين العمانيين والسكَّان الأصليين، حيث هذا بلا شك سيعمل عمله في جلب أعداد منهم لاتِّباع المذهب الإباضي وتأثرهم بعادات وآداب العُمانيين، خاصَّة إذا عرفنا أنَّ الكثير من العُمانيين كانوا أثرياء وكانوا معروفين بممارستهم واشتغالهم بالتجارة وخبرتهم فيها، هذه الأخيرة التي تقوم أساسًا على ربط العلاقات والتعارف بالآخرين.
كما أشير [إلى] أنَّ الكثير من أهالي هذا الجيل الجديد ذو بشرة سوداء أو قريبة إلى السواد، وجزءاً منهم يحمل بشرة سمراء شبيهة تمامًا ببشرة أهل عُمان؛ وهم الذين لم يحصل لهم الاختلاط بالجنس السواحلي أو كان اختلاطهم بهم بصفة جزئية.
2. الحالة الراهنة للإباضية في دولة تانزانيا وزنجبار:
ممَّا هو معروف لدى الكثير من الإباضية، خاصَّة المغاربة منهم، أنَّ [تواجد] الإباضية في شرق إفريقيا يقتصر أساسًا على جزيرة زنجبار دون غيرها، خاصَّة في الوقت الحالي حيث انحصر وجودهم كثيرًا في زنجبار ذاتها، وذلك لمِا تعرَّضوا له سنة 1964 م من أعمال عنف وإبادة، كانت سببا في قيامهم بهجرات متتالية وبأعداد هائلة راجعين إلى البلد الأم عُمان. هذا ما قَلَّل من العرب العُمانيين فيها وجعل عددهم يتضاءل بصفة ملحوظة، وتبعًا لذلك فإنَّ المذهب الإباضي انحصر في هذه الجزيرة كثيرًا.
كما نشير [إلى] أنَّ حكم السلطنة العمانية في زنجبار انتهى إثر هذه الأحداث، فضُمَّت بموجبها جزيرة زنجبار إلى تنجنيقا مشكِّلة معها فدرالية دولة تانزانيا، مع احتفاظ زنجبار بنوعٍ من الحكم والتسيير الذاتي لبعض مصالحها الداخلية؛ حيث أن لها رئيس دولة ولها عددًا من الوزارات والسفارات المستقلة عن تانزانيا في الوزارات [كذا]الهامة والإستراتيجية.
لكن الحقيقة غير ذلك، فعندما يقدم الإنسان إلى هذه الربوع، ويعاين الأمور على كثب فإنَّ هذه المعلومات تتبدَّد لديه ويعرف حقائق لم تكن تخطر في [على]باله من ذي قبل؛ ويعرف الأمور على وجهها الصحيح.
فالإباضية هنا منتشرون على كامل المحافظات الداخلية لدولة تانزانيا، المتمثِّلة في العاصمة دار السلام، وبكوبا، مونزا، طنقا، شينقا، كلوة، وغيرها، والمذهب الإباضي متجذِّر لدى الأهالي، كما أنَّ لهؤلاء مساجدهم ومدارسهم العريقة الدالة على قِدَم وجودهم في هذه الأماكن.
فالمدارس تهتمُّ أساسًا بتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم ضروريات الدين الإسلامي ومبادئ اللغة العربية، حتى يتمكَّن الفرد من معرفة مالَهُ وما عليه من فرائض تجاه ربِّه.
وفي حقيقة الأمر أنَّ الوضعية الاجتماعية والحالة الدينية لا تحمد كثيرًا لدى هؤلاء الإباضية؛ حيث يُعانون من افتقادهم لتعلُّم العلوم الشرعية ومعرفة تاريخ حضارتهم الإسلامية ومذهبهم الإباضي، وشخصيتهم العُمانية السواحلية، كما أنَّهم يجهلون اللغة العربية جهلاً مطبقًا، فقد تركوها تضيع من ألسنتهم لأسباب عديدة ذكرناها آنفًا، أهمُّها التزاوج بالإفريقيات ذوات اللسان السواحلي، وهذا ينطبق على العرب والسواحليين الإباضية في زنجبار وفي تانزانيا [على حدٍّ سواء]. فنجد الكثير من سكَّان محافظات تانزانيا يحملون مختلف أسماء القبائل العمانية الموجودة الآن في عُمان كاسم اللمكي، والخروصي، والرواحي، والطيواني، والبحري، والحضرمي، والوردي، والمزروعي، والبدري، والمعولي... لكن ليس لهم أي علم باللغة العربية إلاَّ القلَّة الناذرة منهم ممن أتيحت له فرصةٌ هنا أو هناك لتعلُّم بعض أبجديات هذه اللغة.
ولعل من الأسباب الرئيسية كذلك التي أسهمت في إنتاج هذه الوضعية هو كونهم – خاصة الإباضية التنوانيون [كذا] – يعيشون تحت دولة نظام حُكمِها مسيحي، فالمسيحيون يشكِّلون العدد الأكبر من السكَّان، وأن أبناءهم يدرسون مع المسيحيين في نفس المدارس، ويتعلَّمون في بعض المستويات الدراسية تعاليم المسيحية، وهم يختلطون معهم في كلِّ معاملاتهم، هذا ما صعَّب من محافظة هؤلاء على شخصيتهم وعلى أصولهم الإسلامية والإباضية.
كما أشير هنا كذلك [إلى]أنَّ للمذهب الشافعي في هذه الربوع تواجد مُعتبر، والإباضية والشافعية يعيشون متحابِّين جنبًا إلى جنب، وفي تفاهم وتسامح كبيرين، وتعاون منقطع النظير، ولعل وجود المسيحية، بين أجنبهم زاد من تقوية هذه الروابط والصلات بينهما، فهناك تزاوج وتعايش بين المذهبين على كامل المستويات.
لكن ما ينبغي تسجيله في الأخير وبكل تفاؤل أنَّ هناك نشاط وحركة اجتماعية وتعليمية جديدة ناشئة لبعث الإسلام والمذهب الإباضي في هذه الربوع، وإعادة الوجه النيِّر الناصع لهما، وهي بحاجة إلى كثير من الإعانة والرعاية والتوجيه.
ملحوظة: مصادر هذا المقال هي:
1. المقابلات الشفهية مع عدد من إباضية تانزانيا وزنجبار.
2. المعاينة المباشرة لحياة الأهالي الإباضية في تانزانيا وزنجبار.
3. سعيد بن علي المغيري: جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار.
4. عبد الله بن صالح الفارسي: البوسعيديون حكَّام زنجبار.
قاسم أحمد الشيخ بالحاج الجزائري الميزابي، زائر زنجبار
شكشك – الجزيرة الخضراء – زنجبار – تانزانيا
الإثنين 15 صفر 1420/ 31 ماي 1999.