بسم الله الرحمن الرحيم
(البيان الختامي)
المؤتمر الدولي السادس للتقريب بين المذاهب الإسلامية – لندن
(الدور الحضاري للتقريب في تحقيق السلم الاجتماعي)
يوم السبت 12 ذي القعدة 1433هـ المصادف 29/9/2012م
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(سورة الحجرات: 13).
نحو التعايش والسلام دعانا القرآن الكريم حيث الرحمة التي بها أرسل الله نبينا الأكرم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(سورة الأنبياء: 107)، من غير استثناء مسلمًا كان أو غير مسلم،
وجعل الله الناس شعوبًا وقبائل لكي يتعارفوا لا أن يتخاصموا أو يتنازعوا حتى لا تذهب قوتهم ويفشلوا، فقال {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الانفال:46)، ومن أجل أن يتعاون المؤمنون وهم معتصمون بحبل الله، قال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا}(سورة آل عمران: 103)، ومن أجل أن يتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(سورة المائدة: 2)، فهذه وغيرها مقومات للحياة الهادئة التي تنعم فيها الإنسانية وتنشد أهدافًا وقيمًا تتجاوز بها محنها وعقدها الحياتية، حيث إن هذه المبادئ تؤسس لحياة طيبة وتحقق بذلك سلمًا اجتماعيًا بين الناس رغم تعدد الأفكار والأفهام والأذواق وتنوّعها، فالتنوع مصدر إلهام وإبداع وليس عائقًا في طريق تنمية الأمة لقدراتها وحين لا تفلح الأمة في توظيف هذا التنوع في خدمة التنمية والتطوير الحياتي والقيمي تطفو حينها مشاكل وعقد تفتت إرادة التغيير فيها، وحين يكون التنوع ملهمًا للقدرات ودافعًا للإبداع تتطلع الأمة لمواقف مشتركة مستلهمة قيم التعايش المبني على احترام الآخر وحفظ حقوقه وبذلك تعيش الأمة واقعًا جديدًا تتحقق فيه حياة اجتماعية متناغمة تختفي فيها جزئيات العقد الحياتية وتبرز فيه مهام جديدة تدفع في طريق بناء الحياة الحرة الكريمة المبنية على السلم الاجتماعي الذي تنشده الإنسانية في كل مراحلها وبهذا السلم تتفجر طاقات الأمـة وتستفيد من قدراتها الذاتية ليعم خيرها الدنيا جميعًا {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}(سورة الأعراف: 96).
إنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية من شأنه أن يفتت هذه العقد ويفتح آفاقًا للحوار يقضي فيها على الحواجز ويدفع الأوهام التي تعترض الفهم المتقارب والمواقف المشتركة، بينما الأمة في ظل التناحر والتضاد وتناقض الآراء وإغفال قيم التقريب تفقد لا محالة قيم التعايش ومبادئ السلم الاجتماعي وقد أكدت المؤتمرات الخمسة السابقة للتقريب بين المذاهب على إيجاد مثل هذه الفرص الكريمة للتلاقي وفهم الآخر والنأي عن نقاط الخلاف الذي يسد على الأطراف أبواب العمل المشترك والحياة السعيدة، ولأهمية السلم الاجتماعي ودوره في تنمية الإنسان والمجتمع معًا انعقد المؤتمر الدولي السادس للتقريب بين المذاهب الإسلامية ليناقش (دور التقريب الحضاري في تحقيق السلم الاجتماعي) بحضور العلماء والمفكرين والنخب العلمية، ومن خلال الأبحاث والأوراق والمداخلات والملاحظات التي قدمت في المؤتمر ثبّت المجتمعون عددًا من القرارات والتوصيات والمقترحات:
1- التقريب مشروع حضاري وسبب كبير من أسباب تحقيق الوحدة الإسلامية، فالتوافق الفكري مقدمة للانسجام العملي، وإن تطوير آليات التقريب وتفعيل حراكه المؤثر في الأمة كلاهما سيجعل من هذا المشروع حاضنة كبيرة لتطلعات الوحدة داخل كيان الأمة الإسلامية الواحدة، لتسود ثقافة الوحدة والتقريب بين المسلمين.
ومن يعيب على التقريبيين ويلمز جهودهم وأعمالهم سيلوذ بالهزيمة ويصطدم بجدار هذه الوحدة ولا يحصد سوى المزيد من الفشل والخسران ومخالفة النداءات القرآنية وسنة النبي الأكرم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم في تعزيز وبناء التآخي والوحدة بين المسلمين.
2- لابد من التمييز بين الصحوة الإسلامية بما تحمله من عفوية وقيم إسلامية ومطالب جماهيرية محقّة، وبين (الربيع العربي) الذي دخلت عليه يد الاستكبار والهيمنة لتفتيته والسيطرة عليه، ثم إن الصحوة الإسلامية تعني الرجوع إلى قيادة النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وهي بالتالي تعني ولادة الأمة الإسلامية الواحدة من جديد والتي سوف تشكّل القوة العظمى التي تقود الإنسانية، وهذا ما جعل أعداء الإنسانية يصبّون جام غضبهم على شخصية نبينا قائد الأمة الإسلامية المرشحة لقيادة العالم الجديد.
3- إنّ الإساءة للرموز والمقدسات الدينية إنما هي عبث في السلم الاجتماعي لهذه الإنسانية، ولا تمت تلك الإساءات من قريب أو بعيد إلى حرية الرأي والفكر فإن الحرية إنما تنتهي عند حقوق الآخرين، ومن هنا يطالب المؤتمرون كل المنظمات والهيئات الإنسانية والدينية لا سيما منظمة التعاون الإسلامي ودول عدم الانحياز والجامعة العربية للسعي من أجل تجريم مسببي ومثيري هذه الإساءة الأخيرة وأمثالها ومن ثم السعي لاستصدار قانون دولي يجرم مثيري هذه الإساءات وصانعيها ومروجيها، حيث لا ينفع مع هؤلاء الإدانات أو الشجب أو الاستنكار بالمرّة.
4- إن بلادنا الإسلامية اليوم تخضع لأشد وأعنف المؤامرات والأعمال التي تستهدف تمزيق وحدتها بسلاح الطائفية وفتاوى التكفير نيابة عن دول الهيمنة والتسلط. إن المسلمين كافة مسؤولون عن مواجهة هذه التحديات وتداعياتها، وللعلماء دور مبرّز في درء الفتنة وإحلال السلم والتعايش المشترك وبدون ذلك الحزم سوف نسمح لهذه الأخطار أن تأتي على كل ما نمتلكه نحن المسلمين من مصادر القوة والوجود، إنهم لا يريدون تنمية بلداننا ولا رفاه شعوبنا ولا يسمحون لأي تطور في عالم الإبداع الذي به تبنى المجتمعات، فليكن المسلمون يدًا بيد لتحقيق تلك الأماني التي بها سعادة شعوبنا بعيدًا عن أية تبعية أو استغلال لثرواتنا أو مساسٍ لسيادة بلداننا. إننا خير أمة أخرجت للناس إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر وآمنا بالله الواحد الأحد.
5- السلم الاجتماعي: إذا كان السلم هو غياب العنف والإرهاب والنـزعات القومية والعرقية والطائفية وغيرها فهذا هو هدف السماء ورسالة الأنبياء ونظم القرآن وسيرة النبي الأكرم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ، فلا حضارة ولا رخاء لهذه الإنسانية جمعاء إلا بإحلال السلم الاجتماعي بين الناس عمومًا وبين المسلمين أنفسهم بشكل خاص ولو بمراتب مختلفة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال السير في طريق الوحدة وبناء المواقف المشتركة وهذا بدوره لا يتم إلا من خلال إيجاد أجواء هادئة ومستقرة يحقق التقريب فيها مساحة كبيرة من الانسجام والتناغم والحوار. وبغير السلم الاجتماعي الذي تحيط به التحديات من كل مكان سوف ينتظر الإنسانية والمسلمين بشكل خاصٍ خراب عظيم ودمار لكل ما حققته الأديان والمذاهب في طريق التعايش وفهم الآخر في ضوء التنوع والتعددية الفكرية.
6- ضرورة البحث عن آليات جديدة تدعم التقريب إلى جانب الآليات الفاعلة فيه فالتحديات أمام التقريبيين تتعقد مع تجدد وإصرار التقريبيين ولعلّ تشكيل الورش الفكرية في مختلف المناطق والحوار القريب والخطاب الهادئ وإشاعة قيم التقريب وسيادة ثقافته بين المسلمين، يسهم ذلك كله في إيجاد مناخات تقريبية جديدة لدرء التحديات والوقوف بوجهها لصناعة رأي مشترك وموقف مشترك في مختلف المسائل التي تواجهنا اليوم كتقريبيين ورواد وحدة دعا إليها إسلامنا الحنيف ونبينا العظيم صلَّى الله عليه وسلَّم .
7- لهذه الأمة الإسلامية قضايا كبرى تجهد في الدفاع عنها وفي طليعتها القضية الفلسطينية التي تدعونا جميعًا للوقوف إلى جانبها والدفاع عن حقوقها وعن أبنائها، في وقت يحاول البعض إلهاء الأمة عنها وعن مجمل قضايانا الأساسية ليَضيع المسلمون في الخلافات والفتن.
ونحيي من هنا كل صوت مقاوم يأبى الذل والهوان لا سيما في فلسطين ولبنان، وإن طريق الوحدة والتقريب يحقّق الكثير من هذه الآمال التي يتطلع لها المظلومون في كل مكان فالله سبحانه لا يريد لعباده أن يظلموا أو يُظلموا فبالعدل يسود السلم والأمان وهو الهدف الأسمى للتقريبيين ومن يسعى في طريق بناء أواصر الوحدة الإسلامية.
8- إن النـزاعات اليوم التي تشهدها سائر بلادنا الإسلامية تدعونا للمبادرة لوضع حلول عاجلة لوقف نزيف الدم والعنف من خلال تشكيل مرجعية علمائية تقوم على حلّ هذه النـزاعات على أساس من المعايير الإسلامية، وبدونها سوف نـترك المجال للمتربصين بهذه الأمة الذين يسعون لتمزيقها والهيمنة على ثرواتها وحقوق أبنائها وسيادة بلدانها.
9- وفي سياق الفقرة الثامنة من هذا البيان فأن جميع المسلمين مطالبون بالتصدي لتقديم الحلول الإسلامية الناجعة للأزمة الدامية في سوريا، ويؤكد المؤتمر على تشكيل (لجنة اتصال) على المستوى الذي يليق للتحرك على قضية بحجم سوريا (الحكومة، والمعارضة معًا) لإيجاد فرص وخيارات مناسبة لقبول الحل الإسلامي.
ويبارك المؤتمرون الجهود المبذولة لعقد مؤتمر الحل الإسلامي للأزمة السورية المزمع عقده في طهران في غضون الشهرين القادمين إيمانًا منا جميعًا بحفظ دماء المسلمين واحترامها، مناشدين الجميع بدعم هذا الاتجاه ليكونوا جزءًا من الحل لا جزءًا من المشكلة، ولعل اللجنة الرباعية القائمة حاليًا تكون جزءًا من هذا التحرك الجديد الواسع.
10- قادة البلدان الإسلامية أمامهم مسؤولية دعم الجهود التقريبية التي تهيء لمقدمات العمل المشترك وصناعة المواقف المشتركة. أما أن يبقوا يتفرجون على هذا الحراك الذي يسعى لوحدة المسلمين فان الشعوب تحمّلهم مسؤولية ذلك، وإن علماء الأمة والسائرين في طريق الوحدة وكذلك روّاد التقريب ينتظرون من قادة هذه البلدان الموقف الداعم والمؤيد لهذا الحراك التقريبي الذي فيه خير الأمة ومستقبلها لا سيما بعد إن أخذت تحديات التقريب أبعادًا دولية في مقدمتها الاستقواء بالخارج والفتن الطائفية التي تدار من دول الهيمنة والتسلط. فالمسؤولية مشتركة من أجل أمان هذه الأمة وسعادتها وبناء مستقبلها المستقل.
وما طرح في مؤتمر قمة (التضامن الإسلامي) الأخير من الدعوة إلى تأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية ينبغي أن تكون خطوة فاعلة لتصحيح المسار الدعوي لينأى عن منطق الإقصاء والتكفير إلى منهج الإخاء والتسامح والتفكير.
11- قبل أربعين سنة اعتمدت دول العالم اتفاقية التراث العالمي بناءً على فكرة مفادها أننا نتقاسم تراثًا عالميًا يحقق الترابط بين جميع الثقافات وهي فكرة تحاول الجماعات المتعصبة في بقاع العالم كافة محاربتها، كما في الاعتداءات التي حصلت على المقامات الصوفية والإسلامية والدينية بشكل عام وليست الإسلامية فقط لما تتضمنه من اعتداء موجّه ضد هذا التاريخ وضد قيم التسامح والتبادل والعيش المشترك التي تحملها هذه المواقع التاريخية، وهذا يدعوننا إلى حركة تضامن عالمية جديدة لشجبه والحيلولة دون تناميه وهي في صلب أهداف التقريب من أجل تحقيق السلم الاجتماعي العالمي.
12- هناك جملة من التوصيات والمقترحات أكد عليها المؤتمرون في طليعتها:
أ‌- أن يعرَّف هذا المؤتمر ككيان إسلامي مستقل له رسالة وأهداف وأمانة ولجان عمل تفعّل التوصيات التي تنبثق عن المؤتمر في بياناته الختامية.
ب- تصميم موقع إلكتروني خاص للمؤتمر يوثق كافة الأوراق والرسائل والبحوث والدراسات والتوصيات التي طرحت في المؤتمرات السابقة والتي ستطرح في اللاحقة ليكون ذلك مرجعًا حقيقيًا للدارسين والباحثين في مجال التقريب.
ج- إصدار كتاب سنوي عن المؤتمر يحمل اسم المؤتمر والدورة السنوية ويتضمن جميع المشاركات من أوراق بحثية وكلمات وبرامج وأسماء المشاركين.
د- تخصيص صندوق (دعم مالي) لتنفيذ مشاريع وبرامج التقريب.
13- للمرأة دورها المؤثر في تفعيل مشروع التقريب، لذا ينظر المؤتمرون إلى ضرورة تعزيز دور المرأة المسلمة وإتاحة مساحة كبيرة لها في هذه المؤتمرات لتمارس دورها في التأثير في أوساطها لا سيما في المجال الاكاديمي والجامعي ومختلف المجالات الفكرية.
14- كلمة شكر وثناء لكل الجهود التي شارك فيها المؤتمرون ومن تجشم عناء السفر والحضور وللقائمين على هذا المؤتمر في سبيل توحيد الكلمة بأعلاء كلمة التوحيد، وكلمة ودّ وثناء للإعلاميين الذين لازمونا فترة انعقاد المؤتمر ونحمّلهم أداء رسالة التقريب في وسائلهم الإعلامية المرئية منها والمقروءة والمسموعة فالإعلام بات سلطة مؤثرة في صياغة الرأي العام لذا ندعوهم شاكرين لتنظيم برامج خاصة في التقريب والوحدة لإشاعة هذه الثقافة والقيم التقريبية في مجتمعاتنا وخارجها، ومن جهة أخرى العمل على نشر فكرة الحل الإسلامي لأزمات العالم الإسلامي عمومًا. والله هو المسدد والمستعان.
 والحمد لله رب العالمين.
المؤتمر الدولي السادس للتقريب بين المذاهب الإسلامية - لندن
12 ذي القعدة 1433هـ الموافق 29/9/2012م

اسم الكاتب